الحديث الشريف
بين
غدر الخِلاّن ونقد العقلان ونطح الخِرفان
من تأليف محمد خروبات
…………………
بسم الله الرحمن الرحيم ،وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد خيرالخلق أجمعين ، وبعد،
فهذا موضوعٌ الكلام فيه يطول ولكنني ألتمس الاختصار في القول بالإشارات العامة من دون تطويل ولا تفصيل .
بحكم اهتمامي بالحديث النبوي الشّريف ، ومتابعتي لما يُكتب ويُنشر عن حديث النبي صلّى الله عليه وسلم ، وما وقفتُ عليه من السّرقات العلمية التي طالتني بصفة شخصية ، أستطيع الجزم من دون تردّد بأن الحديث النبوي الشّريف يعاني اليوم من ثلاثة أصناف، هذه الأصناف أساءت إلى الحديث وعلومه، وإلى السّنة النبوية وأعلامها ومصادرها.
الصنف الأول: غدر الخِلّان ، وهذا من أخطر الأصناف وأشدها وطأة على السنة النبوية ، وهم صنف من المشتغلين بها ، سخّروها للارتزاق والشهرة والترقيات ، يعيشون على سرقة جهود غيرهم ، وبيدي شواهد وأدلة ، تجمع لديّ ركام منها سأبسطه في وقته إن شاء الله ، وهم للأسف شيوخ مردوا على السّرقة والتمويه والانتحال ، نسبوا لأنفسهم ما ليس لهم ، وأصبحوا سادة ومحكمين للمواضيع المسروقة ،هؤلاء خانوا الأمانة العلمية حين وجّهوا طلاب العلم الشّريف توجيها غير سليم ، وقد شكا إليّ غير واحد من طلبة العلم من أنه كان ضحية توجيه سيء إلى موضوع مسروق من قبل هؤلاء، والكلام عن هذا الصنف يطول .
الصنف الثاني:نقد العقلان ، من المستشرقين ومن جرى مجراهم ، أولئك الذين استخدموا مناهج معينة من العلوم الإنسانية لدراسة السنة النبوية ، أفضى تطبيق المنهج إلى تحصيل رؤية لا تنسجم مع حقيقة الموضوع المدروس من مثل الكلام في تدوين السنة وكتابتها ، الصحابة الرواة، مصادر السنة مثل صحيح البخاري وغيره ، تأويل النصوص الحديثية تأويلا تتحكم فيه رؤية مُسبقة ، والواقع أن هذا الصنف اسْتُثْمِر إيجابيا في الموضوع ،ذلك أنه أثرى الدرس الحديثي من جهة كونه دفع بعض علماء الحديث إلى بذل جهد كبير في خدمة المادة العلمية ، فآراؤهم وشبهاتهم كانت دافعا نحو تطعيم المنهج الحديثي النقدي وتقويته ، وهذا ما نجده عند صبحي الصالح مثلا في ” علوم الحديث ومصطلحه” ، وعند السباعي في “السنة ومكانتها في التشريع” وغيرهم ، هؤلاء يدفعون الشبهات ، ويقررون القواعد والحقائق والمعطيات ، فاستثمار شبه “أهل العقلان” في نقد الحديث يعين علماء الحديث على التأصيل لقضايا العلم ، وقد فعلنا أشياء من هذا في الفصل الثامن من كتابنا ” الاستشراق والعلوم الإسلامية ” ، وفي بحوث أخرى.
هذه هي طبيعة المنهج الحديثي في علم الحديث، إنه لا يهاب الشبهات ولا تخيفه التحديات بل يستثمرها في عملية الاجتهاد داخل العلم ، فلولا الكذب والتدليس والوضع والانتحال والتأويل والتحريف والزيادات وآفات الرواية الشفوية وعوارض وقوادح المكتوب لما كان لعلم الحديث وجود.
الصنف الثالث: نطح الخِرفان ، يتوهم هؤلاء أنهم من أهل الصنف الثاني ، خطابُهم في نقد الحديث وعلومه ومصادره وأعلامه غير متماسك ، لا هم في النقل بقواعده ، ولا هم في العقل بضوابطه ، هؤلاء ” خِرفان” ، لأنهم ليسوا في المعرفة من تيار البرهان أو المحسوبين على العقلان ، ينطحون النصوص لأجل إلحاق الضرر بها ،ومن شدّة حرصهم على النطح والتفاني في تحقيقه ما كرهوا أن يضعوا طلاء أحمرا بما يشبه الدم تمويها لدمي النصوص وإعطابها ، مُفلسون وجهلة ، هم أشبه بالعطار حين يحاكي صورة الطبيب والصيدلي ، لهم أتباع ، وأتباعهم على شاكلتهم، فهم يشكلون ” جوقة الجهل” في ساحة العلم والمعرفة ، وهؤلاء لا يمكنك أن تجاريهم لأن كلامهم سطحي جدا ، يتكلمون من دون فهم ولا علم ، الكلام في صحيح البخاري أو صحيح الحديث أو حتى الكلام عن أعلام الصحابة يجب أن يكون “صِناعيا” ، وإذا تعذر عليهم التواصل معك عن طريق صناعة العلم فكيف بالعامة ؟ ! ، العوام لا يفهمون العلوم ولا قواعد ثبوت النص ودلالته ، لهذا السبب يكثر جمهور” الخِرفان” ويقل قُراء “النّقلان” .
لا تغتر بما يروجه هؤلاء من أن هذا الحديث أو ذاك المصدر هما سبب تخلف الأمة اليوم ، إذا كان التخلف عندهم يقاس بمنطق الصناعات والابتكارات والاختراعات فهناك أمم تعبد البقر وتتوضأ ببوله ، وتسجد للحجر والشجر وهي في سلم الدول المتقدمة صناعيا ، متى كانت عبادة البقر والقرود والنيران حاجزا أمام التقدم الذي ينشدونه ، وبالمثل كيف نزج بالنصوص في أمور لم توجد لأجلها ، زد على هذا أن هذه النصوص التي يطعنون فيها حققت حضارة راقية عولمية كانوا يومها في أصلاب أجدادهم ، لكن كتب الله عليهم الشقاء أن وُلدوا في زمن التخلف والتبعية المذلة والتقهقر العلمي والتخلف الصناعي ، وعوض أن يُشمروا على ساقهم الجد حملوا النصوص مسؤولية التخلف ، وإذا بقي المدّعي منهم على هذا الحال فسيبقى متخلفا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، نسأل الله السلامة والعافية .
Scroll To Top