بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد:
فقد أتاحت لي مناقشة رسالة الطالب الباحث الركراكي الأزرق ( نظرية العوارض الطارئة في الفقه الإسلامي وأثرها على المعاملات المالية ) فرصة للوقوف معه على بعض القضايا المنهجية التي تخص “بناء النظرية” سواء في الفقه الإسلامي أو في غيره ، وإن كان الكلام عن بناء النظريات داخل الدراسات الإسلامية يختلف عن بنائها في حقول علمية أخرى وذلك لتباين الأنساق واختلاف الُبنى ناهيك عن التمايز القائم بين القواعد والأدلة .
” بناء النظرية ” أو” تأسيس النظرية ” كلها أمور تؤول إلى شيء واحد ، هذا الشيء هو الذي نحن بصدد الكلام عليه الآن ، البناء ليس هو التفسير والوصف ، والتأسيس ليس هو التأصيل أو التفعيل ، تلك حدود معرفية يجب التمييز بينها .
من مستلزمات بناء النظريات ما يلي:
أولا: أن يكون الراغب في البناء صاحب حرفة ، تظهر عليه صنعة الفن الذي يريد بناء النظرية فيه ، البناء لا يكون للمتطفل على المجال ، ولا يتأتى للهاوي بل للممارس للصنعة بأقدمية ظاهرة .
ثانيا: التمكن من جزئيات العلوم ، أعني بذلك أجزاء العلم ثم العمل على تركيبها وفق خطة منهجية معينة ، النظرية تُنحت من مجموع التراث ، فالتراث كم هائل لا يتم التغلب عليه إلا بتوليد نظرية تمتح من أجزائه ، إن تمثل الأجزاء على الطريقة التي وصفنا هي التي تُعطي للنظرية المراد تكوينها طابع المشروعية ، كم من نظرية مولدة من ثقافة أخرى يراد لها أن تدرس تراث آخر ، وهذا من الإسقاط الممقوت .
ثالثا: نقض المخالف والنقيض مهم جدا في البناء ، لا يستقيم بناء مع وجود عناصر الهدم قائمة ، نقض النقيض مهم جدا .
رابعا: توليد المصطلحات ، ولا بد للمصطلح أن يكون مصطلحا فنيا ، والتوليد لا يكون إلا بعد التمكن ، وعلى المولد للمصطلح أن يدرك مفهومه أو مفاهيمه جيدا ، ومن مجموع المصطلحات المُوَلدة تُبنى النظرية .
خامسا: البعد عن الاستطراد والإنشاء المجازي والحكي والسرد والإطالة في النصوص ، فهذه العناصر ليست من مستلزمات بناء النظريات ، النظرية في بنائها تُبنى بلغة نظامية، بأفكار دقيقة ، وأسلوب بنائي .
سادسا: وضوح المنهج ، فوضوح المنهج من وضوح الرؤية ، والمنهج المقصود في الكلام هو المنهج التركيبي ، كلما كانت الرؤية واضحة كان المنهج واضحا .
سابعا: إبعاد العاطفة والتحلي بالعقل النقلي الذي هو بطبيعته عقل نقدي ، إبعاد الذاتية وإحضار الموضوعية ، إبعاد النظرة الكمية واعتماد الرؤية الكيفية ، والرؤية الكيفية في مُجمل الكلام لا بكثرة الكلام .
ثامنا : اعتماد الأدوات والآليات الصالحة لبناء النظرية من ذات الدراسات الإسلامية لا من ذات الدراسات المجردة ، من ذلك انتقاء المصادر والمراجع الدالة على البناء ، كل ما لا يصلح في البناء يُستبعد .
تاسعا: في عملية البناء يغيب التاريخ وتحضر البنيوية ، يُستبعد المجاز وتحضرالحقيقة ، يُجتنب الكلام العام ويحضر التقعيد والتحديد .
عاشرا: تحتاج النظرية إلى تفكير استراتيجي ، يختزل الماضي في الحاضر، وينظر إلى المستقبل ، يستحضر التأصيل قبل التفعيل ، بمقادير معينة ومحسوبة.
إحدى عشر: إذا كانت هناك عدة نظريات في التخصص الواحد ألا يمكن بناء نظرية موحدة ، تسهيلا على الباحثين ، وتقريبا للمعرفة للدارسين ، في الفقه الإسلامي مثلا عدة نظريات ، تلك النظريات المعروفة ب”النظريات الفقهية “، مثل : نظرية الظروف الطارئة ، نظرية الالتزام ، نظرية الحق ، نظرية الضمان ، نظرية المصلحة ، نظرية المخاطر، نظرية السمسرة ، نظرية الضرورة ، نظرية التعسف في استعمال الحق وغير ذلك ، كل هذه النظريات تتكامل فيما بينها ، وكل نظرية لا تستغني عن الأخرى ، في هذا الإطار ومن باب ” المشقة تجلب التيسير” ألا نفكر في تكوين نظرية من هذه النظريات ، نُطلق عليها ” نظرية النظريات”.
المقترح قيد النظر.