بسم الله الرحمن الرحيم
توجه الحجاج إلى الديار المقدسة يمر من مرحلتين : الأولى الحج إلى بيت الله الحرام ، ونعني به “مكة المكرمة “، فكل مناسك الحج هي في مكة وما يتبعها من ميقات ، والمرحلة الثانية هي “زيارة المدينة” ، ومثلما سنخصص دروسا للحج ومناسكه نخصص هذا الدرس لزيارة الحجاج للمدينة المنورة ، نبدأ كلامنا بالزيارة وإن كانت في المرحلة الثانية لأن قصد الحاج هو بيت الله الحرام ، وبحسب قاعدة “العمل بالنية” و”الأمور بمقاصدها” يأتي الحج في المرحلة الأولى ، لكننا هنا سنحدث الحجاج عن المرحلة الثانية في نقط مختصرة ، نقدمها كما يلي:
1- يلتبس على الحجاج زيارة المدينة بالحج إلى مكة ، ويقع عندهم خلط ، وهذا الخلط نبينه لهم بالقول بأن زيارة المدينة هي مجرد زيارة ، لا تدخل في مناسك الحج ، زرت المدينة أو لم تزرها فهذا لا يؤثر في مناسك الحج.
2- أن النية في زيارة المدينة المنورة هي في الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على الزائر أن يعقد النية بأنه جاء ممتثلا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : “المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومسجد الأقصى ” [1].
3- شد الرحلة إلى المدينة المنورة يعني الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمثلما أن الصلاة في المسجد الأقصى تقدر بخمسمائة صلاة ، والصلاة في بيت الله الحرام بمائة ألف فالصلاة في المسجد النبوي تقدر بألف صلاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ” صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام” [2] . ولذلك على زائر المدينة أن لا يحيد عن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم رغبة في هذا الأجر.
4- في المسجد أماكن شريفة ، شرفها الوحي ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم : ” ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة “[3] ، إذا قدر له أن يصلي في الروضة الشريفة فبها ونعمت ، وإذا لم يقدر فالصلاة في المسجد تجزي ، ومن الأماكن الشريفة قبره وقبر صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، فبعد الصلاة زر قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وسلم عليه فإنه يرد على المسلم عليه السلام ، ولا يتجاوز دعاؤك السلام ، وإذا أردت الدعاء فاستدر إلى القبلة ، وسلم على قبر صاحبيه وترض عنهما ، واعلم أن قبره وقبر صاحبيه في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها .
5- لا أقول لك عليك بزيارة بيوت الصحابة الكرام فبيوتهم التي كان يقرأ فيها القرآن وكانت منارات علم وهداية مثل بيت أبي بكر وعلي وغيرهما شرفها الله تعالى بأن جعلها من مساحة المسجد النبوي ، فقد شملتها التوسعات التي استحدثت للمسجد عبر التاريخ ، فأنت في المسجد كأنك في بيوتهم رضوان الله عليهم أجمعين.
6- احرص أن لا تفوتك صلاة مكتوبة في المسجد ، وصل من النوافل فيه ما قدر لك ، واقرأ القرآن فإن القرآن في هذا المسجد نزل ، واحرص على الاستفادة من الدروس التي تقدم فيه ، فهي في كل العلوم الشرعية ، يتولاها كبار العلماء والشيوخ فقد كان جبريل ينزل فيعلم الصحابة أمور الدين ، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعل صحابته من بعده ، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ” من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة رجل ينظر لمتاع غيره ” [4] ، وفي حديث أبي أمامة الباهلي عند الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته ” [5].
7- حين تنتهي قم بزيارة إلى البقيع ، وهي مقبرة دفن لأموات المسلمين ، بها قبور كبار الصحابة ، فإذا كانت زيارة المقابر تذكر بالآخرة فهذه تذكرك بالآخرة وبمعالم الدين ، المقبرة تضم رفاة الصحابة والتابعين ، ادع بدعاء الزيارة وترحم على الأموات ، وتأمل بعين الخشوع والرحمة فيمن عرفت قبورهم وتم التعليم عليها وبيانها كقبر عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وغيره ، ولا تأخذ من المقبرة شيئا لا حجرا ولا ترابا .
8- إذا أردت أن تربط الحاضر بالماضي ، والأحكام الشرعية بالواقع ، وتوسع مدارك فهمك بأمور الدين ، عليك بزيارة الأماكن المحددة في الزيارة ، والمنصوص عليها في زيارة المدينة ، وعليك أن تعلم أنك في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، التي كانت تسمى ب “يثرب” ، و”طابة” ، وقد تسمت ب “المدينة المنورة ” لأنها تنورت بأنوار الوحي ، إليها هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل شطرا من القرآن فيها ، وفيها فرضت أركان الإسلام ، وبها تشكل المجتمع الإسلامي الأول ، المجتمع الذي خاطبه الله تعالى من فوق سبع سماوات : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس، تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله )[6] ، فيها عاش النبي صلى الله عليه وسلم وبها مات ، وفيها دفن ، فكل جهة في المدينة لها حدث تاريخي في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته .
9- على زائر المدينة أن يعرف فضائل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكلما كان الزائر على علم ب “الفضائل” كلما كان تعظيمه للمدينة وحبه لها قويا ، فمن فضائلها :
أ- أنها حرم آمن إلى يوم القيامة لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ” إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة.. ” [7]، وقال في الحديث المتفق عليه : ” المدينة حرم ، فمن أحدث فيها حدثا ، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يُقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل” [8]، فليحرص المؤمن ألا يرتكب معصية ولا بدعة تذهب بحسناته ، وأن يكون مستقيما على أمر الله وطاعته .
ب- تعدد أسمائها للتشريف والتعظيم ، فهي طيبة ، وطابة ، ويثرب ، والمدينة المنورة ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، وطابة من الطيب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن الله تعالى سمى المدينة طابة” [9].
ج- أن الإيمان يأرز إليها ، أي يتجه إليها ، ويكون فيها ، والمؤمنون يقصدونها ، ويؤمونها ، يدفعهم بذلك إيمانهم ، وهي هكذا منذ عهد النبوة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ” [10].
د- وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالسكن الخير ، فهي خير المساكن ولو كان فيها ما كان من تعب ونصب وكد ، لقوله : ” والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ” [11] .
ه- دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة فقال : ” اللهم بارك لنا في ثَمَرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا ” صحيح مسلم.
و- أن لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.
ز- المسجد النبوي الشريف ذكره الله تعالى في محكم التنزيل ، ووصفه بأنه مسجد اسس على التقوى ، يقول تعالى : ” لمسجد اسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ” التوبة 108.
ولها فضائل أخرى كثيرة ضربنا عنها صفحا طلبا للاختصار، وقد صنف العلماء في فضائلها وتاريخها كتبا كثيرة .
ولزيارة المسجد النبوي آدابا ، نذكر منها :
أ- التزين عند حضور المسجد ، ب- النهي عن دخول المسجد بالرائحة الكريهة ، ج- استحباب التبكير ،د- تحية المسجد ، ه- التزام السنة في الدخول بالرجل اليمنى ، والخروج باليسرى ، ودعاء السنة عند الدخول : ” باسم الله ، والسلام على رسول الله ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ” ، وان يقول عند الخروج : ” باسم الله والسلام على رسول الله ، اللهم إني أسألك من فضلك ” ، و- النهي عن التمسح بالحجرة الشريفة ، والصلاة إليها .
10- الصلاة في مسجد قباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين [12]، و لقوله عليه الصلاة والسلام : ” من تطهر في بيته ، ثم أتى مسجد قباء ، فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة ” [13].
11- ولا بأس من زيارة شهداء أحد ، والترحم عليهم ، وليربط الماضي بالحاضر وهو ينظر إلى جبل الرماة ، وقبور الصحابة ، وجبل أحد الذي يحبه الله ورسوله .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
نشر بالموقع بتاريخ: 16/7/2019م