نص المحاضرة التي تمت المساهمة بها في ” اليوم العلمي الأول ” الذي نظمه مركز البحث الطبي بالتعاون مع جامعة القاضي عياض وكلية الطب والصيدلة بمراكش في موضوع ( الأعشاب الطبية والقنب الهندي ومكانتهما في الأبحاث العلمية الطبية ) ، وذلك يوم الجمعة 8 فبراير 2019 ، بالمدرج رقم 10 بكلية العلوم ، السملالية بمراكش . …………………………………………………………………………………
القنب الهندي بين مدارات الواقع وتنصيص الحكم الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد:
فإن الكلام في موضوع “القنب الهندي” يختلف من تخصص لآخر ، منهم من يتناوله من الناحية الاقتصادية ليقرر بأن المغرب يُعتبر في مقدمة البلدان المصدرة لهذه المادة ، وهذا مؤشر له دلالاته من الناحية الاقتصادية ، ومنهم من يتناوله من الناحية الاجتماعية ليستخلص بأن أزيد من 90 ألف أسرة تعيش من إيرادات القنب الهندي ، ومنهم من يتناوله من الناحية القانونية ليبين بأن الدولة تحارب المخدرات ولها في ذلك قوانين رادعة ، وأن موضوع القنب الهندي أُثير من قبل الهيئات والفعاليات السياسية والأحزاب الوطنية ، وطالبوا بتقنين هذا الموضوع وإصدار قوانين بشأنه ، ومنهم من يتناوله من الناحية التاريخية ليكشف الأطوار والأدوار التي مر منها القنب الهندي وحقيقة هذا المسمى في الحضارات المتقدمة قبل انتقاله إلى المجتمع الإسلامي في عهد الإسلام ، ومنهم من يتناوله من الناحية الطبية ومن وجوه عديدة ، وسيتأكد ذلك في المداخلات المبرمجة في أنشطة هذا اليوم العلمي المبارك ، كما أن الموضوع تمت معالجته من الناحية الشرعية ، غير أن هؤلاء اضطربت أقوالهم في إيراد الأقوال والآراء بين من يقول بالتحريم ومن يجوز ذلك بناء على قرائن اجتماعية واقتصادية ونفسية وطبية إلخ ، وما أثير في القول ب “الجواز” لا يعدو أن يكون من الأقوال الشاذة ، وبعضها غالى في التأويل .
قبل استصدار الحكم الشرعي يجب فهم واقعة القنب الهندي الذي يسمى ب “الكيف” في المغرب ، والواقعة لا تبتعد عن “فقه الواقع” ، لأن فقه الواقع هو أحد أجزاء الفقه المطلوبة من دونها لا تستقيم “المعرفة الفقهية” ، ولا تتضح واقعة الموضوع ، وأضيف من موقع هذا التبرير حقيقتين : حقيقة تاريخية وحقيقة لغوية ، وهما حقيقتان تساعدان على بيان الحكم الشرعي ، وما يلزم فعله في الظاهرة المراد الكلام عليها .
الحقيقة التاريخية تكمن في أن شمال المغرب بصفة خاصة ، جهة كتامة واغمارة وغيرها من المناطق ، كانت في مواجهة مع الاستعمار الإسباني والبرتغالي ، لأنها بوابة المغرب ، وإذا قارنا بين توظيف الاستعمار للحشيش ولمواد التخدير في حروبه مع الدول المراد استعمارها كما فعلت بريطانيا في حرب الأفيون مع الصين تمكننا من فهم شيوع زراعة القنب الهندي في هذه المنطقة بالذات ، مع العلم أنه في الوقت الذي بدأت فيه مزارع القنب الهندي لم تكن الخلفية طبية أو صناعية بل كانت الخلفية هي ما يحدثه القنب الهندي عند تناوله ، وهو ما جزم به فقهاء المالكية وغيرهم ومنهم شهاب الدين القرافي من أن المتعاطين لهذه العشبة يكونون مسالمين ، لا يميلون إلى قتال أو نصرة ، وقد بني ذلك على الحديث المرفوع : ” نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر وكل مفتر” ، أخرجه أبوداود في السنن ، كتاب الأشربة ، رقم الحديث 3686 وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح 10/47 حديث رقم 5584.
يقول الخطابي معلقا : ” المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأطراف ، وهو مقدمة السكر، نُهي عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر” ، معالم السنن 4/267
إن الفتور الذي جاء في الحديث وتكلم عليه الفقهاء هو ما يريده المستعمر ويسعى إليه
فهل وصل المستعمر إلى تحقيق هذه الغاية أم أن الغرب نفسه اليوم يشكو من تفاقم هذه الظاهرة عليه ؟ أقول إن الأمر كذلك بل أكثر من ذلك ، فالأفارقة اليوم يهاجرون بالحشيش إلى أوروبا في أمعائهم[1] .
أما شيوع الظاهرة فقد أصبحت مع الأيام ظاهرة صحية لا غبار عليها بل أصبح من الصعب النطق ب “تحريم الكيف” في هذه المنطقة ، أو تجريم مزارع القنب الهندي لاعتبارات يطول الكلام فيها.
أما من الناحية اللغوية فقد أطلق الأطباء على هذا المسمى نعت ” القنب الهندي ” ترجمة ل ” CANNABIS”، وهو نوع من أنواع الحشيش ، وله أسماء عديدة منهم من يسميها بورق الشهانج ، وتسمى بالغبيراء ، وبالحيدرية وبالقلندرية ، وهذه الأسماء تختلف بحسب الجهات وبحسب أسماء من روجها ، اما اسمه العرفي في المغرب فهو نبات ” الكيف ” ، ويسمى في الجزائر وتونس ب ” الزطلة ” ، ويطلق عليه العشبة ، والكيف هو بمعنى ” المثيل ” و ” الشبيه ” و “النظير ” ، وهو يأتي من قصة شعبية مأثورة من أن أحد الناصحين ، ويعد في بلاد اكتامة واغمارة من الأولياء واسمه ” سيدي امحمد بن جمعون ” الملقب ب ” الشريف مول الكيف” أمر الناس باقتلاع الأشجار وزرع نبات التدخين ” طابا” ، ولما ظهر القنب الهندي سألوه عن زراعته فقال ” كيف كيف ” باللهجة المغربية أي مثله ، ولذلك شاع المثل السائر – ولا أدري أهي ترجع إليه أم إلى غيره – ” كيف كيف ، كيف طابا كيف الكيف “.
وتقول بعض الدراسات التاريخية المحققة إن هذه النبتة دخلت إلى المغرب في العهد السعدي ، ودخولها في هذا الوقت يقوي ما ذهبنا إليه من رغبة الاستعمار الإسباني والبرتغالي في تفشي هذه الزراعة في المغرب ، فكيف نفسر إذن تزامن دخول إسبانيا والبرتغال إلى المغرب مع إدخال هذه النبتة في هذا الوقت ، ثم في جهة واحدة من المغرب وهي شمال المغرب ، وإذا استحضرنا ما وقع في هذه المنطقة من معارك ضارية مع المستعمر كما حدث في معركة وادي المخازن ، وطابع المقاومة العنيفة ضد الاستعمار تمكننا من فهم المغزى من زراعة الكيف في هذه الجهة بالذات.
شاع الكيف واشتهر في ربوع المغرب ، وأصبح مادة للتدخين مثل السجائر، وهو تدخين شعبي له طقوس وأدوات خاصة في التحضير والاستنشاق ، ثم أصبح مادة تُستخرج منها المخدرات التي تخلط بالسجائر وتُلف وتُدخن ، وتخلط أيضا بعجين الحلوى التي تسمى في اللهجة ب ” غريبا ” ، مشتقة من ” الغريب ” لغرابتها ، ولغرابة ما تحدثه لمن تناولها ، وهي ضرب من المنشطات ، وكل هذه الاستعمالات غير مشروعة .
ما هو الحكم الشرعي ؟
قبل ذلك لا بد من فهم الظاهرة في شكلها العام ، وفهم ملابساتها وحيثياتها لأنه كلما كان الفهم أعمق كان هذا دعامة قوية على تعليل الحكم ، ومعرفة أسبابه ، وتجلية مقاصده إن تحريما أو تجويزا .
يتجه الحكم الشرعي إلى حالتين لا إلى حالة واحدة ، وإن الخلط بينهما يوقع في اللبس ، وهو ما هو واقع فعلا موضوع القنب الهندي ، فالناس لا تميز في الحكم الشرعي بين الحالتين : الأولى الحكم الشرعي على القنب الهندي في ذاته ، وهو التحريم ، والثانية على الاستعمالات الطبية والاستخدامات الصيدلية ، وهو الجواز ، جوزته الضرورة والمصلحة العلمية البحتة وهو المفهومن قوله تعالى : ” وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ” سورة الأنعام الآية 119 ، وفي موضوع الضرورة قاعدتان فقهيتان : ” الضرورة تبيح المحضورة” ، وهذه القاعدة بُنيت على الآية السابقة ، و”الضرورة تقدر بقدرها” ، أي تُقدر بالقدر المسموح بزراعته وباستخدامه ، وهو الأمر الذي يجب أن تقوم به الدولة ، فترعاه وتسهر عليه .
أما التحريم فهو الحكم العام الذي يشمل استهلاك القنب الهندي المسمى ب”الكيف” بكل طرق الاستهلاك المعروفة بما فيها زراعة هذا النوع من النبات ، والشريعة الإسلامية تنظر في المقاصد الشرعية التي حددتها وبنت الأحكام عليها : وهي المحافظة على النفس والعقل والنسل والمال والدين ، فهو من وجه يضر بالمال الذي أمر الشارع الحكيم من استفادته بطرق مشروعة وصرفه بالوجوه المشروعة أيضا ، ونهى بمقتضاه عن الإسراف والتبذير فقال : ” ولا تبذر تبذيرا ، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” الإسراء 26-27، وقال : ” وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ” الأعراف 31 ، وقد قيل هذا في الطيبات فكيف وأن الأمر يتعلق بالخبائث كما سيأتي ، ومن وجه ثان يتلف العقل ، وإتلاف العقل تهلكة ، لأنه مناط التكليف وبه تميز الإنسان عن سائر الكائنات ، وفي هذا يقول الله تعالى : ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ” البقرة 195 ، ومن وجه ثالث هو قتل بطيء للنفس ، وقتل النفس محرم لقوله تعالى : ” ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيما ” النساء 29، لهذه الأسباب كان حكم التحريم هو الحكم المناسب ، وأما من علل الجواز بالاعتبارات الاقتصادية ونماء المال فهذا لا تقره الشريعة الاسلامية من جهة أن المال المستفاد منه فيه شبهة ، ثم إن الضرر لاحق بالنفس والعقل ، وأما من الناحية الصحية فبقدر ما أن الأطباء يلتمسون من الفقهاء حكما بالجواز لأجل الصناعة الطبية الذي هو داخل في الضرورة والاستثناء فإن الفقهاء يلتمسون من الأطباء في الوقت نفسه بيانا واضحا عن الأضرار الذي يحدثها الكيف على سلامة الصحة الجسدية والعقلية والنفسية ، كما يلتمس الفقهاء من السوسيولوجيين والنفسانيين والاقتصاديين كشفا حقيقيا عن الشلل الذي تحدثه المخدرات في التماسك الأسري ، والأضرار التي يسببها الكيف في اقتصاد الأسر وتربية الناشئة، والقاعدة الفقهية تقول: “كل ما ثبت ضرره ثبتت حرمته” ، وقد أثبت الطب ضرره ، ولذلك يقرر الشرع حرمته.
ونحن في هذا الحكم لا نستخدم قياسا ولا إجماعا بل الحكم هو من صريح النص من قوله تعالى : ” ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث” الأعراف 159، فالآية الكريمة صنفت المستهلكات إلى صنفين : الطيبات والخبائث ،فكل ما يريد الإنسان استهلاكه فليقسه على هذين الصنفين ، ولم تقدم الآية خيارا ثالثا يمكن التستر وراءه ،وإذا كان القنب الهندي لا يمكن وضعه في صنف الطيبات فهو حتما في صنف الخبائث ، والكيف يدخل في عموم الخبائث التي نص الشارع على تحريمها ، والمعروف عن الكيف أنه سريع الوصول إلى الدم ، فيحدث أثر تخدير العقل ، كيف وأن الشارع الحكيم رفع حكم التكليف على غياب العقل حتى من دون مسكرات أو مخدرات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل ويفيق” رواه ابن العربي في عارضة الأحوذي ، وهو صحيح ، 3/392.
نشر على الموقع بتاريخ 11/2/2019م
…………………………………………..
[1]– نشرت الجرائد الوطنية ومنها الجريدة الإلكترونية هيسبريس في عددها 14مايو 2019 استنادا على النيابة العامة ضبط أكبر شحنة للقنب الهندي بفرنسا متوجهة من المغرب ، وقد اعتبرت هذه الكمية أكبر شحنة في القرن الواحد والعشرين ، وليست هذه هي المحاولة الأولى التي يتم ضبطها بل سبقت عدة محاولات منها ضبط 11 طنا من القنب الهندي تم اعتراضها على طريق بيزنسون شرق فرنسا محملة على عدة شاحنات ، وفي سنة 2004 تم ضبط 10 أطنان من هذا المخدر على متن قارب في حياض الأطلسي ، كما تم ضبط كمية كبيرة اخرى علم 1999 يصل وزنها إلى 23.5 طنا عثر عليها على متن سفينة ، وانطلاقا من هذه المعطيات يمكن للباحث ان يستنتج الكمية الكبيرة التي يتصدر بها القنب الهندي إلى أوربا ، ودرجة خطورة هذا النبات المخدر على فرنسا وغيرها من البلاد الاوروبية ، وعملية المتابعة الامنية التي لا يتساهل فيها المغرب لمراقبة ومتابعة وتزويد الطرف الآخر في إطار التعاون الأمني بين المغرب وأوروبا .
كما نشرت جريدة هيسبريس في عددها 20 يونيو 2019 ما ذكرته الوزيرة الفرنسية إليزابيت بورن إن بلادها لن تقنن حيازة القنب الهندي لأغراض ترفيهية لكنها قد تفكر في السماح باستخدامه لأغراض طبية ، ونقلت الجريدة الإلكترونية أن العديد من البلدان الأوروبية ومن بينها المانيا وإيطاليا والدنمارك تسمح بالحصوبل على القنب عبر الوصفة الطبية ن وفي سنة 2018 أصبحت كندا ثاني دولة في العالم تقنن كل استخدامات الماريخوانا.
شكر الله لشيخنا.
بالنظر إلى ما تفضلتم به، وخصوصا مايتعلق باستقدام المستعمر لنبتة الكيف لما لها من شديد الأثر على المستهلك إذ تجعله محجما عن المواجهة والنصرة، هل يمكن القول بأن غياب الحزم في القضاء على زراعة هذه النبتة أو تقنينها – على الأقل – قرار سياسي بالدرجة الأولى قبل أن يكون إخفاقا أمنيا؟
فلربما التقط الحكام الإشارة من المستعمر واستحسنوها عملا بالمقولة”رب ضارة نافعة” ! فما كان مجديا مع المقاومين للاستعمار سيكون لا محالة أنفع وأجدى مع المطالبين بمطالب اجتماعية، اقتصادية أو سياسية.
لا، الامر ليس كذلك ، وُحدت هذه النبتة في المغرب والمغرب تحت السيطرة الاستعمارية ، ولم يكن الاستعمار واحدا ، فإسبانيا شجعت زراعة الكيف في حين أن فرنسا أدركت خطر زراعة الكيف على اقتصادها وذلك حين اشتكت شركات التبغ الفرنسية من مزاحمة الكيف لها فبادرت سلطات الحماية على إصدار قانون المنع ، ناهيك أن سلطة المغرب الشرعية أصدرت عدة قوانين لمنع زراعة وتداول نبتة الكيف ، وقد وقَّع المغرب على عدة اتفاقيات ونصوص دوليةتكافح الكيف والمخدرات ، واليوم فالقانون المغربي يمنع زراعة الكيف وقد توالت في ذلك عدة نصوص تشريعية منها القرار المشترك لنائب رئيس الوزارة ووزير المالية ووزير الصحة العمومية في11 يناير 1960، وظهير شريف رقم 1.60.138 في تتميم الظهير الصادر في 20 شعبان 1373 الموافق ل 24 أبريل 1954 وغير ذلك ، لكن الظاهرة هي أكبر من القانون ، والقانون وحده لا يكفي في مواجهة هذه الظاهرة ما لم يسد وعي عند المواطن بخطورة الكيف على صحته وماله وعقله واولاده ومجتمعه فإذا اقتنع اقتلع .
شكرا لكم شيخنا،
الله جل في علاه نسأل أن يكسوكم رداء العافية ويديمكم خير سند لطلابكم ومنارة تنير درب القاصدين المريدين معين علمكم.
جزاكم الله خير الجزاء