مدخل إلى علم الطبقات عند المحدثين .
من إنجاز الدكتور محمد خروبات
أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب
جامعة القاضي عياض بمراكش.
ملحوظة : نُشر هذا المقال بمجلة دراسات عربية وإسلامية التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش ، العدد 2 ، السنة 2018 ، ونعيد نشره في الموقع مع بعض التصحيحات الخفيفة التي أجريناها عليه ، والتي لا توجد في المقال المنشور في المجلة ، فلينتبه للتفاوت.
……………………………………………………………………………………………
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فقد بني هذا المدخل على العناصر الآتية : الأول في أهمية علم الطبقات عند المحدثين وعناصر التحديد، والثاني في مزايا معرفة الموضوع ،والثالث في معايير التصنيف في الطبقات مع مراجع وهوامش ، وفيما يلي بيان ذلك :
أولا : علم الطبقات: الأهمية وعناصر التحديد.
اهتم المحدثون بالرواة فجمعوهم وصنفوهم في طبقات وكل رجل وضعوه في موضعه ، وترجموا له ترجمة دقيقة تعين على معرفته حتى بعد وفاته بقرون ، فالترجمة إذا كانت أمينة ، والطبقة إذا كانت محددة تحديدا دقيقا فإنهما عربونان على حياة المحدث ، وصورة من صوره الباقية أبد الدهر، وقد تفنن المحدثون في التبويب والترتيب على أنحاء عدة حتى كان هذا الفن من أرقى فنون المعرفة الشرعية ، فهو من أهمها ومن أدسمها ، هو عمود العلم ، والأساس الذي تقوم عليه السنة النبوية ، فالعلم به هو علم بالسنة والجهل به هو جهل بالسنة ، يقول الإمام مسلم بن الحجاج : ( أول ما يجب على مبتغي العلم وطالبه أن يعرف مراتب العلماء في العلم ، ورجحان بعضهم على بعض ، لأن المعرفة بالخواص آصرة ونسب ، وهو يوم القيامة وصلة إلى شفاعتهم وسبب ، ولأن العالم بالنسبة على مقتبس علمه بمنزلة الوالد بل أفضل ، فإذا كان جاهلا به فهو كالجاهل بوالده بل أضل )[1] ، ويقول الحافظ ابن الصلاح تحت موضوع ” معرفة طبقات الرواة والعلماء” : ( وذلك من المهمات التي افتضح بسبب الجهل بها غير واحد من المصنفين وغيرهم).[2]
إن من سبل معرفة الطبقات عاملين اثنين أحدهما مدرج في الآخر، عامل التاريخ وعامل الوفيات ، وعامل الوفيات مدرج في عامل التاريخ لكن العلماء فرقوا بينهما فخصصوا التاريخ بأنه تواريخ المحدثين ورجال الإسناد ، وقصدوا بالوفيات وفيات العلماء الرواة ليتبين منها انقطاع الرواية ، وكانوا يحرصون على معرفة مولد المحدث وبدء سماعه وسنة وفاته ليعرف طلابه الذين سمعوا منه إذا عرفت موالدهم [3]، ويعرف الكذابون أيضا ، يحكي الحسن بن الربيع فيقول : ( قدمت بغداد فلما خرجت شيعني أصحاب الحديث ، فلما برزت إلى خارج قال لي أصحاب الحديث: توقف فإن أحمد بن حنبل يجيء ، فتوقفت فجاء أحمد بن حنبل فقعد وأخرج ألواحه فقال : يا أبا علي امل علي وفاة عبد الله بن المبارك في أي سنة مات ؟ فقلت : سنة إحدى وثمانين ، فقيل له ماذا تريد بهذا ؟ قال : أريد الكذابين )[4].
وقد دخلت عوامل أخرى في تحديد الطبقات مثل : عامل المكان والأفضلية والخيرية والحالة العلمية والعقدية وغير ذلك ، جاءت مكملة ومتممة لمعيار السن والتاريخ والوفيات والإسناد ، وهذه المعايير الأربعة هي ذات وجه واحد ، وهو الوجه الذي ينظر به في موضوع الطبقات، وقد تعددت عناوين المصنفات في هذا الفن ، فالبخاري وابن أبي خيثمة ويحيى بن معين وأبو حفص بن شاهين وأبو زرعة الدمشقي كلهم صنفوا في الطبقات باسم ” التاريخ ” ، وصنف غيرهم باسم ” الوفيات” ، وباشر آخرون الموضوع باسم” الطبقات”وهي كلها مسميات لمعنى واحد .
ثانيا : مزايا معرفة الموضوع :
نعني بالمزايا الثمرات التي تجنى من معرفة الموضوع ، فهو :
أ- يجنب العلماء الوقوع في الخلط بين اسمين تشابها في الاسم والنسب وهما من طبقتين مختلفتين.
ب- يساعد على معرفة المدلسين ، ويعين على ضبطهم.
ج- يهدي إلى معرفة المراتب والمنازل ، ويساعد على التمييز بين الفاضل من المفضول.
د-يفيد في معرفة العوالي وتحصيلها ، يقول الحافظ ابن حجر مستفسرا في شأن اعتبار الحافظ ابن كثير محدثا ، وكان الحافظ الذهبي قد ذكره في مسودة ” طبقات الحفاظ” قائلا: ( هو فقيه متقن ومحدث محقق ومفسر نقاد وله تصانيف كثيرة) ، يعلق الحافظ ابن حجر فيقول: ( لم يكن على طريقة المحدثين في تحصيل العوالي وتمييز العالي من النازل ونحو ذلك من فنون الحديث وإنما من محدثي الفقهاء وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح ، وإن كان الغالب عليه السعة في حفظ المتون لكن لم يكن بحيث لا يميز العالي من النازل باعتبار معرفته بطبقات الرواة وأحوالهم …)[5].
صوغ النص يومئ إلى أن “معرفة الطبقات” تفيد في معرفة العوالي وتحصيلها وتمييزها عن النازل ، ومن لم يكن على علم بمعرفة طبقات الرواة فهو على غير طريقة أهل الصنعة.
ه- تلقي الأضواء على ترجمة مشاهير العلماء والباحثين ، يقول أبو عبد الله الحاكم : ( والأصل في ذلك أن النزول عن شيخ تقدم موته واشتهر فضله أحلى وأعلى منه عن شيخ تأخر موته وعرف بالصدق )[6] ، وهذا نوع من أنواع العالي من الإسناد يتخلله معيار المعرفة بوفيات الرجال.
و- يعين على معرفة الكذابين والوضاعين وذلك لما كانت الطبقة تحدد بعامل السن وهو ” التاريخ” ، يقول سفيان الثوري : ( لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ)، ويقول حفص بن غياث : ( إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين ) [7] ، يريد بذلك احسبوا سنه وسن من روى عنه.
ز- يساعد المصنفين على تطبيق شروطهم ، كما يوضح للدارسين والباحثين مناهج أئمة النقد في هذا العلم ، فالذي لا دراية له بالطبقات يتعذر عليه أن يطبق شرطه .
ثالثا: معايير التصنيف في الطبقات:
لأجل تقريب الموضوع وتوضيحه سنحاول أن نلقي نظرة على بعض التصانيف في الموضوع، فمن الملاحظ أن موضوع الطبقات وإن كان واحدا فهو متنوع في منهجه ومتعدد في طرائق البحث فيه ، والتنوع والتعدد راجعان لا محالة إلى تعدد معايير التصنيف وتنوع أساليب البحث ، كما أن هذه راجعة كلها إلى تعدد وجهات النظر، وتنوع الحقول والمعارف ، لقد شوهد التصنيف في الطبقات في جل العلوم الشرعية وغير الشرعية : في الأدب والشعر والنحو والقراءات والتاريخ والتصوف والفقه والأصول والتفسير، وبما أن فن التصنيف في الطبقات هو منهج حديثي صرف وعرض التصنيف فيه من حقول علمية متنوعة من شأنه أن يُجلي أمامنا الصورة العامة لهذا الفن ، فإن من العلماء من باشر الموضوع بسعة ، معتمدا على عاملي الزمان والمكان ، ومن هؤلاء محمد بن سعد بن منبع الهاشمي الشهير بابن سعد( ت 230ه) في الطبقات الكبرى .
ومنهم من صنف في الطبقات حسب موضوع علمي معين معتمدا في ذلك على معيار معجمي في الترتيب ومن هؤلاء العلامة شمس الدين ابن الجزري (ت 833ه) في كتابه ( غاية النهاية في طبقات القراء) ، وتحديد الطبقات في ” طبقات القراء” جاء على أبواب الحروف من الأسماء والكنى والألقاب والأنساب والأبناء والمشهورين بالكنية أو اللقب أو النعت ، وهذا التصنيف اعتمد فيه ابن الجزري على الحرف المعجمي من دون عامل الزمن كما هو واضح في الكتاب ، بل نراه في بعض الأحيان يقدم من تأخرت وفاته على من تقدمت وفاته.
ويدخل في هذا المحور – محور التصنيف حسب موضوع علمي معين- كتاب طبقات المفسرين لأحمد بن محمد الأدنه وي (أحد علماء القرن الحادي عشر الهجري) ، ذكرت في تراجم المفسرين وبعض أخبارهم وأسماء مؤلفاتهم ورتبهم الأدنه وي طبقات كل طبقة على مائة سنة ، بادئا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى من كانت وفاتهم بعد المائة العاشرة ، جاء في التقديم لكتاب ” طبقات المفسرين ” لشمس الدين أحمد الداودي بأن هذا المؤلف-بفتح اللام وتشديدها-غير كاف أيضا ، ولا يفي بحاجة الباحث ،[8] والأدنه وي اعتمد في تصنيف الرجال على عامل الوفيات كما اتضح ، أما العلامة الحافظ شمس الدين الداودي ( ت 945ه )- وهو أحد تلامذة الحافظ جلال الدين السيوطي – فقد جمع فيه أعلام المفسرين حتى أوائل القرن العاشر الهجري من كافة المصادر والمراجع التي توفرت لديه معتمدا في ذلك على مصادر كثيرة : الطبقات الكبرى لابن السبكي ، طبقات المالكية لابن فرحون ، طبقات الحنفية للقرشي ، وطبقات ابن قاضي شبهة ، وطبقات الحنابلة لأبي يعلى ولابن رجب ، و طبقات القراء للذهبي ، وطبقات الحفاظ للإمام جلال الدين السيوطي، وترتيب الكتاب جاء على حرف المعجم.
ومن العلماء من صنف في الرجال حسب حالة منهج علمي معين كحالة الرحلة في طلب العلم ، ذلك ما نجده في كتاب ( المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ) للحافظ القاضي ابن خلاد الرامهرمزي ( ت 360ه)[9] ، فقد قسم الرجال الذين رحلوا لجمع الحديث إلى الأقطار والأمصار إلى خمس طبقات معتمدا في ذلك على المعيار الزمني، ونراه يخصص الطبقة الخامسة للذين جمعوا بين الأقطار والذين قصدوا ناحية واحدة للقاء من بها ، والراحلين من جهة إلى جهة كالراحلين من البصرة إلى الكوفة ، والراحلين من الكوفة إلى البصرة ، ومن أهل واسط الذين رحلوا من خراسان إلى العراق.
وتقسيم الرامهرمزي للطبقات على اعتبار الرحلة راجع لما كانت تشغله الرحلة من قيمة علمية كبيرة في نفوس العلماء، وقد بينا ذلك في الجزء الثاني من دراستنا عن أبي حاتم الرازي وجهوده في خدمة السنة، فليراجع في موضعه.[10]
ومن العلماء من صنف الرجال حسب اهتمامهم العلمي في رواية السنة ، ومن هؤلاء الإمام شمس الدين الذهبي فقد جعل الطبقة الأولى لتراجم الخلفاء الراشدين الأربعة ونبلاء الصحابة والنساء الصحابيات ، والطبقة الثانية خصصها لكبار التابعين، والثالثة لتراجم الطبقة الوسطى من التابعين ، والرابعة- وهي الثالثة من التابعين- وفيها من تأخر منهم أو توفي معهم وكان في عصرهم من كبار الحفاظ ، ثم طبقة خامسة وسادسة وسابعة وثامنة إلى الثالثة عشرة حيث قسم هذه الطبقة إلى قسمين ، سمى القسم الأول منها “طبقة أخرى صغرى” [11]ثم تتلوها الطبقة الأخيرة وهي الرابعة عشرة.
والملاحظ أن عدد تراجم الحفاظ يزيد كلما زاد عدد الطبقات ، وجعل المصحح والمحقق الشيخ عبد الحمن بن يحيى المعلمي رمزا سهل به معرفة الطبقة التي ينتمي إليها الحافظ ، وكم من طبقة سبقته ، وكم عدد ترجمته في الكتاب ، وكم رقمه في الطبقة ، فمثلا ( 97 -2/3 ع الزهري) أي الترجمة السابعة والتسعون من الكتاب ، والثانية من الطبقة الثالثة ، وحرف العين يرمز إلى أن الستة أخرجوا له ، وإذا خرج له البخاري وحده وضع حرف (خ) ، ومسلم (م) ، وأبو داود(د) ، والترمذي(ت) وابن ماجة (ق)، وهكذا.
ومنهم من صنف حسب مذهب فقهي معين متخذا في ذلك منهجا معينا فيصنف الرجال حسب صحبتهم لإمام من الأئمة والذين صحبوا من صحبه والمقتفين لأثره، والمتمذهبين بمذهبه، فتاج الدين السبكي (ت771ه) في مصنفه ” طبقات الشافعية الكبرى” يجعل الطبقة الأولى في الذين جالسوا الإمام الشافعي ، يقول : ( ونحن اقتصرنا على من تمذهب بمذهبه أو كان كبير القدر في نفسه ، وأسقطنا ذكر من لا نرى لذكره كبير معنى..) [12]، ويخصص الطبقة الثانية فيمن توفي بعد المائتين، وهي فيمن لم يصحب الإمام الشافعي وإنما اقتفى أثره واكتفى بمن اصطلح خبره ، ويخصص الثالثة فيمن توفي بعد الثلاثمائة والأربعمائة ، والرابعة فيمن توفي بين الأربعمائة والخمسمائة ، والطبقة الخامسة من مات بعد الخمسمائة ، والطبقة السادسة فيمن توفي بين الستمائة والسبعمائة.
والملاحظ أن معيار التقسيم الذي اعتمده تاج الدين السبكي بُني على عامل القرابة والعلو إلى الإمام الشافعي معتمدا على عنصر الوفيات في تقسيم الطبقات بحيث حدد كل طبقة بقرن من الزمان، ثم ذيل هذا الكتاب بذيل وهو من تصنيف أبي بكر بن هداية الله الحسيني ( ت 1014ه) سار فيه على نهج التاج السبكي.
ومنهم من صنف الرجال على حالة معينة ، فالسلمي في كتابه” الزهد” يقول : ( وقد ذكرت في كتاب الزهد من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين قرنا فقرنا ، وطبقة فطبقة إلى أن بلغت النوبة إلى أرباب الأحوال…)[13] ، أما في” طبقات الصوفية” فقد اعتمد في تقسيم رجاله على عوامل هي من ذات التصوف، يقول فأحببت أن أجمع في سير متأخري الأولياء كتابا أسميه ” طبقات الصوفية” أجعله على خمس طبقات من أئمة القوم ومشايخهم وعلمائهم فأذكر في كل طبقة عشرين شيخا من أئمتهم الذين كانوا في زمان واحد أو قرب بعضهم من بعض ، وأذكر لكل واحد من كلامه وشمائله وسيرته ما يدل على طريقته وحاله وعلمه بقدر وسعي وطاقتي )[14].
ومن العلماء من صنف لجهة علمية معينة كطبقات علماء إفريقية وتونس لأبي العربي محمد بن أحمد بن تميم القيرواني ( ت 333ه) ، وقائمة المصنفات في هذا الفن تطول.
ثم هناك تقسيم يبدو غير سليم من الناحية المنهجية وهو ذاك الذي قدمه يوسف العش في تصدير كتاب ” تقييد العلم” للخطيب البغدادي، وهو تقسيم أربعيني أورده العش لغاية سد خلل العرض التاريخي لتطور نظر الأولين في تقييد العلم المقدم من قبل الحافظ الخطيب .
إن التقسيم الأربعيني الذي اعتمده المحقق قد يبدو صحيحا إذا ربطناه ب” تطور العلم الإسلامي والسياسة والمجتمع” كما قال[15] ،لكنه يفقد قيمته الموضوعية إذا ربطناه بمادة الكتاب ، والمقصود بذلك أن منطوق النصوص لا يسعف على قبول ذلك ناهيك على الخلل الواضح الذي يبدو على هذا التقسيم إذ أنه لا يستند على نص معتبر، يقول : ( يجب تقسيم الأجيال التي مرت على تاريخ تقييد العلم بصورة تتفق وتطور العلم الإسلامي والسياسة والمجتمع، والأجيال هي الآتية :
1- عهد الرسول والصحابة الأولين ، وينتهي نحو أربعين هجرية بوفاة آخر الخلفاء الراشدين.
2- عهد الصحابة المتأخرين والتابعين الأولين وينتهي حوالي 80 ه في أواخر عبد الملك بن مروان.
3- عهد التابعين المتأخرين وينتهي حوالي 120ه، في أواخر خلافة هشام بن عبد الملك.
4- عهد الخالفين وينتهي حوالي سنة 160ه)[16] .
ويضيف : ( وتقسيمنا حسب الأجيال لكل جيل أربعون سنة تزيد قليلا وتنقص بما لا أهمية له يوافق المدة التي يستطيع أن ينقطع فيها العالم في حقل العلم ، ويوافق طبقات العلماء ونقلهم بعضهم عن بعض ، ونحن إنما نعتمد على طبقات الرواة وأخذهم بعضهم عن بعض في تحديد أجيالهم ، أما تواريخ وفياتهم فقد تخالف تحديدنا لجيلهم لكنها لا تضير تقسيمنا في شيء فقد تتقدم وفاة العالم أو تتأخر عن جيله )[17].
فهل تقسيم العش الأربعيني يوافق طبقات العلماء ونقلهم بعضهم عن بعض ؟ وهل اعتمد المصنف المعيار العلمي المتداول والسائد في استعمال أهل العلم بما يتوافق مع مفهوم الطبقة في عرفهم ؟ وهل رواية البعض عن الآخر محدد تحديدا دقيقا هنا؟ أعتقد أن قضايا علمية كثيرة تخص تحديد موضوع الطبقة يجب أن تتوضح ، وما سنقوم به في بيان طبقة الصحابة وطبقة التابعين وطبقة أتباع التابعين مع ذكر خصوصية كل طبقة كفيل بالكشف عن عدم دقة هذا التحديد ، وذلك في عمل قادم إن شاء الله.
أما الحافز الذي دفعه لتسجيل هذا التقسيم فقد بناه على غايتين : الأولى إزالة الوهم الذي انتقد به المستشرق كولد زيهر المادة المعروضة في كتاب ” تقييد العلم ” زاعما أن أساس تناقض المادة العلمية يرجع إلى تسابق أهل الحديث وأهل الرأي إلى وضع الأقوال التي تؤيد سابق نزعاتهم الطائفية والمذهبية ، والثانية إتمام التحليل الذي أورده الخطيب في رفع التناقض ، أي سد خلل العرض التاريخي لتطور نظر الأولين في تقييد العلم [18].
إذا كان الباحث يوسف العش قد أصاب في الغاية الأولى فإن الثانية مطبوعة بعدم الوضوح لأن الكتاب واضح في منهجه وتقسيمه ، ولم تكن غاية الحافظ الخطيب إبراز عنصر الطبقات من الكتاب وإنما عرض الأقوال في موضوع تقييد العلم بين الكراهة والإباحة ، والتزم منهجا يساير طبيعة الموضوع الذي قصده وصنف فيه ، ولم يكن من غايته بيان موضوع الطبقات إذ لو كان الأمر كذلك لأورد للصحابي الواحد قولين : قول في الإباحة وآخر في الكراهة ، ولو فعلها الخطيب لفقد الكتاب قيمته الفنية والموضوعية ولانتفى الغرض الذي قصده المصنف من تأليف كتابه، والذي يظهر – والله تعالى أعلم-أن التقسيم الذي أورده المحقق بصيغة الوجوب لا علاقة له بالحافز ذي الغايتين السابقتين ، ثم لا يجب التسليم به لمخالفته للمعايير المعتمدة عند أهل العلم في عرض الطبقات وفي تحديدها.
وفي الختام ، فإن هذا المقال هو عبارة عن مدخل يقرب إلى الموضوع ، وهو متبوع إن شاء الله بدراسة موسعة ، نفع الله به كما نفع بغيره ، وصلى الله على سيدنا محمد.
مراجع ومصادر البحث وفق الترتيب الأبجدي:
– الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للحافظ شمس الدين السخاوي(902ه) ، تحقيق فرانز روزنطال،تعليق وتقديم الدكتور صالح احمد العلي ، دار الكتب العلمية ، بيروت، لبنان . بدون تاريخ.
– أبوحاتم الرازي وجهوده في خدمة السنة النبوية – الجزء الثاني- المشيخة والرحلات للدكتور محمد خروبات، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش ، الاولى 2004م.
– تاريخ بغداد او مدينة السلام للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي(463ه) ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ، بدون تاريخ.
– تذكرة الحفاظ للإمام شمس الدين للذهبي ( ت 748ه) ،دار الكتب العلمية، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ.
– تقييد العلم للحافظ الخطيب البغدادي 463ه ، تحقيق يوسف العش ، دار إحياء السنة النبوية ، الطبعة الثالثة 1974م.
– التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين الشهير بالعراقي (ت806ه) ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، المكتبة السلفية ،المملكة العربية السعودية ، الأولى 1969م.
– الرسالة المستطرفة بيان مشهور كتب السنة المشرفة لمحمد بن جعفر الكتاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، الثانية 1400ه.
– طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي (ت771ه) ، تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحاد ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ن مصر ،بدون تاريخ.
– طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي (ت412ه) ، حققه وعلق عليه مصطفى عبد القادر عطا ، منشورات محمد علي بيضون ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الأولى 1998م.
– طبقات المفسرين لمحمد بن علي شمس الدين الداودي ( ت945ه)،دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان، .
– المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي حسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (ت 360ه) ، تحقيق الدكتور محمد عجاج الخطيب ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، الأولى 1971م.
……………………………………………..
الهوامش:
[1]– الورقة 2 من ( منتخب طبقات الشافعيين) للنووي .
[2]– التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ص 466.
[3]- المصدر السابق – معرفة تواريخ الرواة- ص 432 ، والرسالة المستطرفة بيان مشهور كتب السنة المشرفة ص ( 96-101).
[4]- تاريخ بغداد 7 / 308 ترجمة رقم 3824، وإنما خصه أحمد بهذا السؤال لأنه هو الذي غسل عبد الله بن المبارك ونزل في قبره.
[5]- ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي تأليف تلميذه الحافظ أبي المحاسن الحسيني الدمشقي ( 765ه) – ص 58 وما بعدها.
[6]– معرفة علوم الحديث للحاكم ص 14.
[7]– التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ص 432 ، وللحافظ السخاوي كتاب جيد في الموضوع سماه ” الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ “وهو محقق ومطبوع.
[8]– أنظر طبقات المفسرين للداودي – مقدمة الناشر – ص ” ب “.
[9]– المحدث الفاصل بين الراوي والواعي لابن خلاد الرامهرمزي
[10]- أنظر أبو حاتم الرازي وجهوده في خدمة السنة- الجزء الثاني – المشيخة والرحلات – ص 303- 308.
[12]- طبقات الشافعية الكبرى 2/180.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا دكتور محمد على هذا المقال المبارك