البعد الإنساني و الحضاري لترجمة القرآن.
1- القرآن والإنسان : أية علاقة، وكيف؟
لسنا بحاجة إلى تأكيد أهمية الإنسان للقرآن، فآي القرآن من أولها إلى آخرها هي للإنسان على مختلف مستوياته، وعلى تباين أصنافه، ولسنا بحاجة إلى تأكيد مركزية الإنسان في القرآن.
إذا كان هذا معلوما باللسان العربي، ومفهوما في آي القرآن وفي سوره فيجب أن يكون مفهوما ومعلوما بمختلف الألسن البشرية، وعلى ترجمة معاني القرآن أن تكون الكيفية الناجحة في إثبات صلة الإنسان بالقرآن، وفي تقريب المسافة بينهما.
وعلى الترجمة أن تصحح الأخطاء الفظيعة التي ارتكبها المترجمون المتعصبون، وعليها أن تنقل المعنى الذي أراده الله للإنسان من دون تصرف ولا تشويه، وعلى الإنسان أن يجد ضالته المنشودة فيما ينقل إليه أنه من القرآن الكريم أو محسوب عليه، ليشعر أنه يتعامل مع معان شريفة ومقدسة.
إن الترجمة هي أسلوب متميز من أساليب الإتصالات الحقيقية بين الإنسان والقرآن، على شرط أن يتهذب هذا الأسلوب، وأن يتطهر من كل المدنسات والعوائق حتى تنقل الصورة في صفائها ونقائها.
2- القرآن بين العالمية والشمول:
تتأكد عالمية القرآن في أمرين: الأول في الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، والثاني في وجود القرآن في أية بيئة وفي أية لغة وثقافة..
وتتأكد شموليته في صلاحه لكل زمان ومكان، ولكل إنسان..
لما كان القرآن كذلك كان ملكا للجميع، من حق الجميع أن يقبل عليه بالقراءة وبالفهم وبالإستيعاب إلا قراءة جانبت الصواب، وتنكبت عن المنهج المرسوم في التعامل معه.
لما احتاج العرب إلى معاني القرآن أقبلوا عليها بلغتهم، ففسروا ما فسروا، وشرحوا ما شرحوا، واستنبطوا منه ما استنبطوا..
ولما احتاجت الأمم غير العربية لمعاني القرآن أقبلوا عليه بلغتهم، فترجموا منه ما ترجموا، وفسروا منه ما فسروا… وتستطيع بالإستقراء أن تزن حجم نصيب الأمم اليوم من القرآن الكريم فهما ودراسة وترجمة…
إن ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الحية اليوم هي عملية تتناسب أولا وأخيرا مع طبيعة القرآن الكريم ككتاب عالمي ذي شمولية متزنة قبل أن تكون ضرورة من ضرورات البحث المعرفي والفهم العلمي، ونعني بالشمولية المتزنة الشمولية الجامعة لكل قضايا الإنسان وحاجياته، الشمولية التي تستوعب مشاكل الإنسانية ونوازلها في ظل التقلبات الحضارية، وهي ليست بالشمولية الجارفة، المتسلطة على الثقافات والحضارات والكيانات، فتصهر الجميع في بوتقة متناقضة.. لا تناسب ولا تناغم ولا انسجام فيها.
لقد أثبت التاريخ صلاحية هذه الشمولية ومزاياها، وإيجابياتها ومنافعها لأي إنسان كان، في ظل أية حضارة كانت في أي عصرمن العصور. .
لقد أنزل القرآن إلى هذه الأرض ليبقى لا ليفنى، وليتحرك لا ليجمد، وليتفاعل مع الواقع المعيش لا ليهجر، وليندمج في الحضارة الإنسانية الحديثة لا ليقصى ويهمش..إن مملكة القرآن هي حضارة الإنسان، وقوة الحكم في هذه الحضارة هي قوانينه وأحكامه، وربابنة سفينة هذه الحضارة هم المؤمنون به والداعون إليه..
لقد حمل القرآن إلى حضارة الإنسان قضايا ثابتة وأخرى متغيرة، فالقضايا الثابتة هي قضايا الإيمان به، والقضايا المتغيرة هي ما دعا إليه من اجتهاد وعلم وتفكر وإبداع ، لقد أصبح المفهوم الحقيقي للقرآن محجوبا حتى على بعض المؤمنين به، فبعض منهم لا يفهمون بعده الحضاري، ومن هنا فهم يعادون أمورا حضارية كثيرة.
إن للقرآن بعدا حضاريا كونيا ما أحوجنا إلى استلهامه، هذا البعد هو الذي يجعل منه كونيا، عالميا، شموليا وواقعيا.. وبعبارة العصر نقول: (عولميا)، وعولمية القرآن الأساسية هي أطروحته النقدية لمسلكيات حضارية فاسدة، تبدأ بالعبادة وتنتهي باللباس وطرق العيش وكيفياته…
3- القرآن والانفتاح على الحضارات
لا يوجد شيء في القديم ولا في الحديث ولا حتى في المستقبل يمكنه أن يعيق عملية تفتح القرآن على حضارة الإنسان، وإذا ما وجد هذا الشيء فهو بالإفتعال لا بالإفتراض.
لقد أثبت التاريخ أن القرآن انفتح على حضارة الإنسان، والدليل على ذلك:
1– أن أول حضارة انفتح عليها القرآن هي حضارة العرب، تفاعل معها فأعاد بناءها وصوب هدفها، وأقامها على أسس جديدة في العلم والإقتصاد والتجارة والإجتماع والعمران،.. وقد استطاع العرب أن يستو عبوا أحكام القرآن لأنه نزل بلغتهم ، وللمرء أن يتساءل: كيف أصبح وحي إلهي بكلام بشري قرآنا يتلى إلى أن تقوم الساعة؟ أليس هذا من قوة التفاعل والتفتح على حضارة الإنسان؟.
لقد استوعب العرب القرآن بلغتهم، وخرجوا منه المعارف والعلوم، ثم من موقع حضارتهم البدائية انطلقوا إلى الحضارات الشرقية المجاورة فاتحين، ومعلمين و مرشدين .
2 – كانت الحضارة الشرقية هي الحضارة الثانية التي تفتح عليها القرآن الكريم، ومنها حضارة بلاد فارس، وقد امتزجت تعاليم الإسلام الربانية مع الإنسان الشرقي وحضارته لتكون شيئا واحدا.
3– ثم تفتح القرآن على الحضارات الغربية، مثل الحضارة التركية واليونانية والرومانية، وحضارة شبه الجزيرة الإيبيرية، ثم حضارة الإنسان الأمازيغي في شمال إفريقيا…
كل هذه الحضارات تفتح عليها القرآن، قدم نفسه إليها فأهدته كيانها ووجودها، ومن مجموعهما تشكلت الحضارة الإسلامية في صيغتها العامة.
كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سببا في انتشار الإسلام، وأسلوبا من أساليب كسر الحصار على الدعوة، وبعد هجرته هاجر أصحابه، ولأهمية الهجرة اتخذ منها عمر بن الخطاب بداية للتأريخ الإسلامي المبني على معايير دقيقة، ثم هاجر الصحابة والتابعون وتابعوهم من الجزيرة إلى خارجها لنشر الإسلام عبر المعمور، فكان هذا سببا في اتساع رقعة الإسلام حتى وصل إلى أقطار نائية.
إن هجرة النبي من مكة إلى المدينة إنما هي هجرة القرآن من مكة إلى المدينة، لذا وجدناه منقسما إلى قسمين مكي ومدني، وهجرة الصحابة والتابعين وتابعيهم إنما هي هجرة القرآن مكي ومدني إلى أقطار وأمصار أخرى ، حيث أنشئت مدارس للقرآن الكريم حفظا وقراءة وتفسيرا وفهما.
هذا هو الأسلوب الذي يجب سلكه في الدفع بالقرآن إلى كل إنسان، وإلى أية حضارة، وبأية لغة حية.. لابد من هجرة القرآن من وطنه إلى أوطان أخرى، وبلاد أخرى ولن يتحقق ذلك إلا بالترجمة، وأعتقد جيدا أن هذا هو الأسلوب الأمثل في الحوار الحضاري، والتبادل الحضاري، والتدافع الحضاري، فترجمة معاني القرآن ستحقق ثلاثة أغراض أساسية كل غرض له صلة بعنصر من العناصر السابقة.
- على مستوى الحوار الحضاري : القرآن يحاور الإنسان ، فيرغبه ويرهبه، ويوعده ويتوعده، يبين له ويوضح، ويكشف له عن خبايا الذات وأسرارها، ولذلك فحين يخاطب القرآن الإنسان يحصل التجاوب ويقع التفاعل.
- على مستوى التبادل الحضاري : بقدر ما تنفتح الحضارة الإسلامية على الحضارة الفرنسية فتأخذ منها وتستورد بقدرما على حضارة الآخر أن تأخذ من حضارة الإسلام، وهذا هو مغزى التبادل الحضاري، إنه أخذ وعطاء، استيراد وتصدير، وهذا التبادل مثلما يتم على المستوى الإقتصادي والتجاري والتقني بقدر ما يتم أيضا على المستوى الفكري والثقافي والمعرفي والديني، وها هي العلوم اللاهوتية والمعارف الدينية الغربية تعم العالم الإسلامي، وتتحرك بحرية كاملة من دون قيود أوشروط، نتساءل: أين نصيب القرآن من هذه الحرية؟ و من هذا التبادل؟.
- على مستوى التدافع الحضاري : قام مفكروا الغرب في حربهم الطويلة على الإسلام والمسلمين بتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وقد دخلت عملية ترجمة المعاني في مختبر التشويه والطمس والتغطية، وكان المترجم حرا في أن يدخل في المعاني ما شاء، لأنه في النهاية ماهو إلا ذات تحمل في كيانها تعصبا لمركزية حضارية معينة، فزج بالقرآن في هذه العملية، نجزم بدون تحفظ أنها لم تكن بريئة، وظهرت بيد الأوربيين تراجم للقرآن تمت بطرق خارجة عن إرادة المسلمين، وأنجزت بمنآ عن جو المنهج الإسلامي في النقل والضبط والإحكام.
إن التفكير في عملية ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الحية بطريقة علمية أمينة، وبروح إيمانية متجردة لم تكن سوى واجهة من واجهات الضغط الحضاري المتزايد، ذلك أن علماء الغرب استغلوا الفراغ الموجود المتمثل في غياب ترجمة إسلامية أمينة فوضعوا بدلها ترجمة إستشراقية غير سليمة.
إن الغرض من الترجمة الإسلامية الأمينة هو تحقيق ما يلي:
- ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الحية ترجمة إسلامية أمينة يجدها المسلم الناطق بتلك اللغة، فتشفي له العلة، وتروي له الغلة، لأنها أمينة في نقل المعنى من القرآن إلى اللغة الأخرى.
- تصحيح صورة القرآن وإزالة المستور عن حقيقة القرآن، وإنصافه من التأويل والتحريف الذي أصاب معانيه طيلة قرون.
- إرجاع القدسية والشرف للقرآن الكريم، فكثير من المستشرقين ولا سيما أولئك الذين جردوا أنفسهم للبحث عن الحقيقة من دون خلفيات تعاملوا معه كوثيقة تاريخية أو كنص أدبي عادي.
- الدفع بترجمة معاني القرآن حتى تشغل حيزا مهما في الجهود البذولة اليوم في الترجمة، فعملية ترجمة معاني القرآن لا تشغل من حيز الإهتمام إلا نزرا يسيرا، بل تجدها منعدمة في المعاهد والمؤسسات الموضوعة لهذا الغرض.
- الدفع بشباب الأمة إلى الإقبال على ترجمة معاني القرآن، وترجمة علومه وتفاسيره إلى اللغات الحية لاسيما في هذا العصر الذي توسع فيه الاهتمام باللغات الحية.
4-الترجمة والتواصل
يثار الكلام عن التواصل بشيء من الغربة داخل الثقافة الإسلامية، ربما لأن المتخصصين في الموضوع أملى عليهم التخصص الإتيان بنظريات لا تنتمي إلى ثقافة الذات، وقد ذاعت هذه النظريات وشاعت إلى درجة وقف حيالها المثقفون الإسلاميون موقف العاجز عن المبادرة والإقتحام، وإذا أثير الكلام عن التواصل من المنظور الإسلامي فبشيئ من الإنكماش والإحتشام.
مثلما أن التواصل قائم في أصل الخلق فهو قائم في أصل الدين، وفي سورة الحجرات من قوله تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[1]، وللآية مستويات عديدة للتفسير.
التواصل من هذا المنظور على مستويات:
– المستوى الأول : تواصل بين العبد وربه، وهذا المستوى لا يجب أن يتوقف أو أن ينقطع، ويجب أن يتم بما جاء به الشرع وبينه.
– المستوى الثاني بين الإنسان الواحد ونفسه، هذا المستوى يجعل منطلق التواصل من الذات أولا، درءا للإنفصام والإغتراب.
– المستوى الثالث: التواصل بين الإنسان والإنسان، وهذا المستوى هو الذي تنحبس فيه نظريات التواصل القائمة .
وتأتي الترجمة – وأعني بها ترجمة معاني القرآن- لتجمع بين هذه المستويات وتزيد عليها أخرى، فالترجمة هي حلقة وصل بين البشرية الجاهلة بالعربية ومعاني القرآن، ذلك أنها تقدم شيئا واحدا من القرآن هو (بعض معانيه) فقط، ويخطئ من يظن أنه بالترجمة يقدم المعاني كل المعاني، وهذا من شأنه أن يوقع تواصلا مع القرآن لكنه تواصل جزئي فقط، وهذا التواصل الجزئي يدفع الإنسان نحو علاقته بربه، ونحو علاقته بنفسه، ونحو علاقته بالإنسانية على هذه الأرض، وأخرى نحو علاقته بالكون والطبيعة والحياة، وهي مقدمات أولى نحو التواصل الحقيقي.
5 –القرآن بين المعارضات والترجمات
وجه الكلام عن المعارضة في إطار الترجمة أن كلا منهما استهداف للنص القرآني، المعارضة استهدفته في بنيته فحاولت أن تحاكي مبناه، والثانية استهدفته في معناه فحاولت أن تأتي بمثله، المعارضات حرب على القرآن و كذلك ترجمة القرآن في بداية أمرها، فهي من حيث الزمان والمكان واللسان والإنسان غريبة عن الثقافة العربية والإسلامية .
من حيث الزمان قديمة ، تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي .
من حيث المكان بعيدة فقد تمت في شبه الجزيرة الإيبيرية، في دير من أديرة الكنيسة الكاثوليكية، وهو المشهور بدير كلوني.
من حيث اللسان تمت باللسان الإسباني اللاتيني وكانت ترجمة محرفة لم تخف عداءها للقرآن ولنبي الإسلام.
من حيث الإنسان فقد اشتهرت بترجمة دير كلوني لصاحبه بطرس المبجل ، فهي ليست لأحمد ولا لمحمد على الرغم من أن فاعلها حاول إخفاء إسمه فكان يتلاعب بحروف مقطعة في غلاف طبعاتها .
آثرت ذكر المعارضة في معرض الكلام عن الترجمة لأن كلا منهما لم يفلحا في تحطيم القرآن، ولا إلغاء أو الحد من فاعليته على مستوى الوجود، فمثلما أن مسيلمة الكذاب وطليحة بن خويلد الأسدي والمرزا غلام أحمد القادياني والمرزا الباب والبهاء وغيرهم لم يفلحوا في النيل من القرآن فكذلك المستشرقون الذين تفانوا وتفننوا في النيل من القرآن بمختلف أنواع الإساءة، وقد اندحرت كل تلك الجهود لسبب واحد هو امتلاك القرآن لحصانة غريبة وقوة في التحدي عجيبة.
6 – الترجمة بين القرآن والتوراة والإنجيل.
أمامنا نوعان من التراجم للقرآن الكريم: نوع إستشراقي غربي ونوع إسلامي، النوع الإستشراقي كان هو المبادر الأول للترجمة، واتسعت دائرته عبر السنين، ولم يجد المستشرقون عوائق في ذلك فقد انطلقوا في الترجمة من دون استحضار رخصة الجواز الشرعي ولا قواعد البيان وفنونه، ثم إنهم اكتسبوا ذلك من موقع ترجمة كتابهم المقدس، فالنص عندهم – أو هذا هو المفهوم من صنيعهم- هوهو مهما تعددت ترجماته، فالإنجليزي يحمل بيده ترجمة للكتاب المقدس ولا يخامره أدنى شك في كونه هو نفسه الكتاب المقدس، والفرنسي يتعامل مع الترجمة الفرنسية وهي عنده الكتاب المقدس، وكذلك الإسباني والإيطالي واليونان والروسي كل واحد منهم يقول: إنه الكتاب المقدس، قد يكون ذلك صحيحا لأن الكتاب عندهم هو مقدس بالمعنى فقط، وإذا كانت هذه إحدى صفات كتابهم المقدس فلا يمكن بأي حا ل إسقاطها على القرآن الكريم، بل من الظلم واللاعلمية التعامل مع القرآن بها لسبب واحد هو أن القرآن كتاب معجز بلفظه الذي أنزل به، فإذا غيرت ألفاظه بألفاظ أخرى ولو كانت عربية كان ذلك مجرد تفسير أو ترجمة ، تلك هي سمة تميز القرآن على غيره من الكتب السماوية.
ملاحظة أخرى يجب تسجيلها في هذا السياق هي أن القرآن كتاب المسلمين وهم معنيون به، والتوراة والإنجيل هما كتابا اليهود والنصارى وهم معنيون بهما، وإذا نظرنا في تراجم القرآن الكريم وجدنا أغلبها من صنع المستشرقين في حين لم يسجل التاريخ ترجمة واحدة للكتاب المقدس من صنع المسلمين، والسؤال المطروح: هل الفعل الترجمي الإستشراقي للقرآن هو لخدمة القرآن وتيسير وصول معانيه إلى الناس كلهم أم أنهم أرادوا تحقيق أهداف أخرى؟ ثم لم لم يفعل المسلمون بالكتاب المقدس مثل ما فعل أهل الكتاب بالقرآن؟ أعتقد أن الجواب عن السؤالين واضح، فلا أحد يقر بأن فعل الفعل الترجمي الإستشراقي هو لخدمة القرآن الكريم كما أن الدافع لترجمته كان بسسب التأثير الذي فعله القرآن في البشرية، وهذه الخاصية ليست للتوراة ولا للإنجيل، ثم إن إعراض المسلمين عن الاهتمام بهما إنما ينبع من موقف القرآن منهما، فهو ناسخ لهما ومهيمن عليهما وكاشف للتحريف والانتحال الذي أصابهما.
7– الإنعكاسات السلبية للترجمة :
كثر الكلام في موضوع ترجمة معاني القرآن واشتدت وطأته، وأعتقد أنه كلام سيتنامى وسيتكاثر، وهذه من ثمرات هذا الكتاب العزيز كلما تطور الزمن إلا وتطورت قضايا ومستجدات تصبح موضوعات للبحث والدرس، ومنها موضوع الترجمة الذي لم يكن مشكلة عند القدماء وأصبحت اليوم معضلة حضارية ودينية وثقافية.. الملفت للإنتباه أن الكلام عن القرآن سيبقى ما بقي القرآن بين أظهر العباد.
ومهما كان موضوع ترجمة معاني القرآن يفتح شهية الكلام عند الباحثين والمهتمين والدارسين فإنه يعكس أزمة غير مشعور بها في الظاهر، وتتمثل في تواري اللغة العربية، فاللغة العربية هي لغة القرآن، وموضوع الترجمة أغفلته الثقافة الإسلامية القديمة ولم تعره اهتماما لسبب واحد هو أن الموضوع لم يكن يشكل أزمة للثقافة الإسلامية في ذلك الوقت، صحيح أن الأوائل اهتموا بضبط الأصول جمعا وتوثيقا وتيسيرا للفهم وتبليغا، فأسسوا العلوم ووضعوا الضوابط، ولم يكن يخطر ببالهم أن اللغة العربية ستتوارى، وأن الحضارة الإسلامية ستتراجع ، فعولوا على اللغة العربية في كل شيء، ولو أنهم أدركوا قيمة الترجمة، وما ستؤول إليه الأمور معها لوسعوا الكلام فيها، ولوضعوا ضوابط وقواعد ، بل على الأقل لقدَّموا تراجم لكل القرآن أو لبعض من آيه إلى اللغات الحية الموجودة في ذلك الوقت ، مثل الفارسية والهندية واليونانية واللاتينية القديمة …لكن ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون).
أما اليوم – ونحن أبناء اليوم- فالوضع يختلف، فالمسلمون من غير العرب كثر، والذين نطمع في دخولهم إلى الإسلام هم أكثر، ولم تعد اللغة العربية هي لغة الحضارة والصدارة ، بل أريد لها أن تتخلف عن اللغات الأخرى، وحوربت بشتى الأشكال والألوان، وابتلع الناس اللغات العالمية التي تقدمت شعوبها ديمقراطيا وتكنولوجيا، بل ابتعد المسلمون عن العربية في أوطانهم، ولم تعد العربية هي لغة التخاطب اليومي في العالم الإسلامي برمته.
صحيح أن شعوبا مسلمة كثيرة فرنكوفونية وأخرى أنكلوفونية هي بحاجة إلى التعامل مع معاني كتاب الله عز وجل، ومن دون ترجمة هذه المعاني إلى اللغات التي يجيدونها يزداد بعدهم عن القرآن أكثر، لكن على الدعاة والعلماء بالقدر الذي يفكرون في تقريب المعاني بالترجمة أن يفكروا في حث الناس على تعلم العربية، وعليهم أن ييسروا تعليمها وتلقينها للبشرية في كل بقاع العالم، وهذا الأمر موكول إلى الدول العربية، والجمعيات وأهل الخير من الدعاة والمحسنين والمسؤولين بتأسيس معاهد لتعليم اللغة العربية في كافة بلدان العالم أسوة بما تفعله أمريكا وبلدان أوربا وبعض البلاد الأسيوية في تأسيس مراكز لتعليم اللغات .
للترجمة إيجابيات كثيرة كثر الكلام عليها اليوم بإلحاح ربما هي الأداة الوحيدة للتواصل عند البعض، أو ربما هي المساعد الأساس للخروج من التخلف عند آخرين، أو ربما هي الوسيلة الوحيدة التي تطرد عنا مفهوم الأمية الجديد كما يسود في الإعتقاد،هكذا يكثر الكلام في عد إيجابيات الترجمة بسكوت مطلق عن السلبيات التي تسببها، ولكسب عنصر التوازن بين الإيجابي في الترجمة والسلبي فيها آثرت تسجيل سلبيتين اثنتين :
– الأولى: أن الترجمة وإن كانت إيجابية في حد ذاتها فقد وظفت توظيفا سلبيا، وأصبحت ظاهرة خطيرة عكست تواصلا مفتعلا داخل المجتمع الواحد، فأصول المجتمع ناطقة بالعربية، والتواصل الإداري والسياسي يتم باللغة الفرنسية، والنخبة المثقفة في المجتمع تتواصل بلغات أجنبية متباينة بعضها إنجليزي وآخر إسباني وطرف ثالث – وهو الغالب – فرنسي، والشعب يتواصل مع بعضه البعض بلهجات ولغات متعددة، والذي يوحد هذه الأطراف هي الترجمة، فلفهم القرارات السياسية والمراسلات الإدارية لابد من الترجمة، وتواصل النخبة المثقفة فيما بينها وبين الشعب لا بد من الترجمة، وتواصل الشعب فيما بينه يتم عبر الترجمة، هكذا أصبحت الترجمة أداة لتغطية سلبيات كثيرة يراد لها أولا وأخيرا أن تنقل معاني الأصول الشرعية المعتبرة ومنها القرآن الكريم إلى عقل المجتمع الواحد، ولا أتكلم عما يجب فعله مع الخارج ، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في غير هذا المقام.
– الثانية: لما استقرت الترجمة فنا مستقلا وعلما قائما له قواعده وضوابطه وآلياته المنهجية خرجت على حدود السيطرة على معاني النص، بحيث تحولت سيطرة المترجم من السيطرة على النص إلى السيطرة على آليات الترجمة وقواعدها وفنونها كيف تستوعب أحسن وتطبق أكثر، ويجري تقويم الترجمة من منظور ذاتها فتحولت من مجرد وسيلة لفهم النص إلى غاية في حد ذاتها، وهذا ما نراه في ترجمة النص القرآني، فبقدر ما على المترجم فهم تقنيات الترجمة والإخلاص لها بقدر ما عليه الإخلاص للنص القرآني بمعرفة علومه وفنونه المصاحبة له عبر التاريخ ولا معنى لفصله وتناوله بانعزالية قاتلة، تلك محاولات لا تورث من ترجمته سوى القشور، خذ مثلا قوله تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)[2]، فالذي لا يعرف وضع القصة في السيرة النبوية وفي السنة الصحيحة ووضع النفاق والمنافقين وحالة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حين عثر عليها صفوان بن المعطل السلمي إلى غير ذلك من التفاصيل المرتبطة بحدث الإفك، ثم الذي لا يربط هذه الآية مع الآيات العشر الأخرى التي نزلت دفعة واحدة في أم المؤمنين لا يستطيع أن يقدم شيئا نافعا وكاملا في ترجمة معاني هذه الآية، ثم خذ قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة)[3]، إذ لا يمكن للترجمة أن تستقيم من دون معرفة واقعة غزوة بدر الكبرى والتفاصيل المرتبطة بها، وكلمة ( أذلة ) لا يمكن ترجمتها ترجمة حرفية، فهي لا تعني( ألإهانة) بل القلة في عزة وقوة وهو ما تدل عليه واقعة غزوة بدر، والآية هي تذكير الصحابة بفضل الله ومنته عليهم.
نعم لتحكيم صناعة الترجمة في نقل معاني النص لكن ذلك يجب أن يكون بالموازاة مع تحكيم قواعد وفنون النص التي ما وجدت إلا لأجل فهمه وتقريبه، وقد يقول قائل إن هذه الدعوة لا تتطلبها صناعة الترجمة وهي خارجة عن ماهيتها، نقول إذا كانت سائر النصوص لا تتطلب ذلك فإن نص القرآن يتطلب ذلك، وهو نفسه قد دعا إلى ذلك، فليعتبر هذا المطلب فإنه في غاية الأهمية بالنسبة للمقبل على ترجمة القرآن.
8 -الترجمة ليست استكمالا أو استدراكا على القرآن:
هي خاطرة أحببت تسجيلها هنا، خاطرة تنبع من موقع المتابعة والإحساس، وكم أرجو أن لاتكون حاضرة في نية المترجمين المخلصين للقرآن الكريم، أما ذوي النيات السيئة فغاياتهم أبلغ من هذا كله.
كأني ببعض من يترجم القرآن أو يتكلم فيه يحاول بعمله ذاك الإستدراك على القرآن، كأن شيئا بقي ناقصا أراد هو تكميله، فالترجمة في ظنه أو في ظن غيره هي تكميل للقرآن، يمكن للقارئ أن يستغني بها عن القرآن حين يريد المعاني، وهذا معتقد خاطئ وقد يوقع في الإثم لسببين:
الأول أنه كتاب كامل متكامل، وفي التنزيل 🙁 ما فرطنا في الكتاب من شيئ)[4].
الثاني لو أراد الله عز وجل أن ينزل القرآن بلغات العالم يومئذ لفعل، ولو أراد أن يترجم ما أنزل إليه من وحي القرآن لفعل، و التبرير في القرآن : ( ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ، آعجمي وعربي، قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)[5]
فتبين أن الإيمان يكون رادعا ومانعا من الوقوع في هذا الزعم، وتبقى الترجمة فنا من الفنون التي تخدم النص، وما أكثر العلوم والفنون التي أنشئت خصيصا لخدمة نص القرآن، يتغير كمها وكيفها ونوعها بحسب الحاجة إليها.
إن النقص المتوقع هو في الحاجة البشرية، فالترجمة هي “حاجة بشرية من القرآن”، وحوائج الناس منه لا تنقضي، وعدم انقضاء حوائج الناس لا يعني أن القرآن ناقص، والله سبحانه وتعالى أنزل كلامه باللفظ العربي، وأودع في هذا اللفظ مجمل المعاني المطلوبة، ولو أراده أعجميا لأنزله بلسان أعجمي، ولو أراده مترجما لأنزل نسخا باللغات الحية في ذلك الوقت، ولو أراد معانيه مترجمة لعلم نبيه – وهو الذي وكلت إليه مهمة التبليغ والبيان – لغات العالم يومئذ، ولما استحال تحقق هذا الأمر اتضح أن الله تعالى أراد من البشرية أن تقبل على القرآن بلفظه الذي أنزل به، لأن الإقبال عليه باللفظ العربي به تتحقق العبادة ، فمن صلى بالقرآن مترجما فصلاته باطلة بالإجماع، وبه يتحقق الأجر، فمجرد قراءته بلفظه فيه أجر، وبه يتحصل المعنى، فالذي يجيد اللسان العربي يدرك المعنى من دون تكلف، وهذه المزايا كلها لا تتحقق بالقرآن مترجما، وقد أدرك المسلمون من غير العرب هذا الأمر باكرا فأقبلوا على العربية تعلما وتعليما ، ومنهم من أصبح فيها إماما.
تكمن الحاجة البشرية من الترجمة إلى أمرين :
الأول : عدم اهتمام المسلمين بالترجمة أدى إلى شيوع تراجم فاسدة للقرآن الكريم، هذه التراجم شوشت على معاني كتاب الله، فكانت جزءا من الحرب الفكرية التي ابتكرها العقل الغربي للنيل من أصول الإسلام، وفي مقدمة هذه الأصول القرآن والسيرة واللغة العربية ، كانت التراجم الفاسدة هي المحرك الأساس للتفكير في ترجمة القرآن ترجمة إسلامية صحيحة وأمينة.
الثاني : تبليغ القرآن إلى الناس أينما كانوا وكيفما كانوا، ليقفوا على الأقل على المعاني الحقيقية والصائبة من كلام الله ، وقد ساهمت هذه الخطوة في إسلام عدد لا يستهان به من الناس، إنها محاولة أولى في تقريب القرآن، لا يجب الوقوف عندها ، بل تتبعها خطوات أخرى مهمة وضرورية من جنس ما تم الكلام عليه قبلا.
……………………………………………………………………………………………………..
[2]– سورة النور الآية 11.
[5]– سورة فصلت الآية 43
بسم الله الرحمن الرحيم
ماشاء الله مقال مبارك من دكتور وأستاذ مشارك وشيخ مبارك. نفع الله بكم دكتورنا الحبيب
وبعد إذن حضرتكم فأنا نرى بضرورة ترجمة معاني القرآن. ويكفينا فخرا أن النص الأصل المترجمة معانيه هو بين أيدينا ولله الحمد سالما من كل تحريف أو تصحيف. بخلاف كتب العهد القديم والجديد.
وانطلاقا مما خلصتم-فضيلتكم من أن الأمر اجتهادي. فنقول:-والله أعلم- انه مادام الباحث والداعي المسلم يطمح إلى أن تصل معاني القرآن إلى أبعد أقطار العالم؛ كان حتما عليه استغلال وسيلة الترجمة- المنضبطة بضوابط من يرى – لتحقيق ذاك الطموح. والذي كان طموح الصحابة الكرام.
والله اعلم
موفق إن شاء الله