منشور في ملتقى اهل التفسير أنظر الرابط :
https://vb.tafsir.net/tafsir26940/#.WaHzWfjyizc
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
1- حول كتاب ” تاريخ القرآن ” :
المستشرقون الذين تخصصوا في القرآن الكريم كثر جدا، لا تخلو مدرسة من مدارس الاستشراق الغربي من جماعة مهتمة بالقرآن الكريم، لذلك وقع الاهتمام في هذا البحث على أقدمها وأهمها وهو كتاب “تاريخ القرآن” لتيودور نولدكه (1836-1930)، فهو من أقدم الكتب، ومن أهمها، وله تأثير كبير على مجمل الدراسات والأبحاث التي اهتمت بالقرآن الكريم قديما وحديثا بل تعدى تأثيره إلى القراءات العربية المعاصرة للقرآن الكريم، فأثره في الغرب والشرق حول القرآن بليغ جدا، كان تيودور نولدكه Théodor noldeke [2] هو صاحب الفكرة وصاحب الاقتراح، فهو الذي وضع نواة هذا المشروع الذي أصدره عام 1860م باللغة الألمانية، تناول فيه قضية جمع القرآن وتدوينه وروايته، وقضية ترتيب السور، وكان هو السبَّاق من المستشرقين إلى إعادة ترتيب القرآن بحسب النزول، وهي الشبهة التي توارثها المستشرقون فيما بينهم على مرِّ عصور التاريخ إلى اليوم.
يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول أصدره فريدريك شفالي fr. schwallay[3] تحت عنوان “في أصل القرآن”، وكان نولدكه قد عهد إليه مهمة التعديل والإصدار، وصفه في المقدمة التي وضعها لهذه الطبعة بقوله: ( تلميذي القديم وصديقي الأستاذ شفالي ).
الجزء الثاني من تأليف نولدكه ومن تعديل شفالي ، خصص لعملية جمع القرآن مع ملحق في التاريخ الأدبي حول المصادر العربية المحمدية – كذا- والأبحاث المسيحية الحديثة، مات شفالي والجزء جاهز للطباعة فتولى صهره هاينريش تسيمرن إخراجه ، وقد ذكر ذلك في المقدمة التي وضعها والتي لا تتجاوز صفحتين .
أما الجزء الثالث فهو الجزء الذي يهمنا في هذه الدراسة ، وهوالجزء الأخير من هذا المشروع المشترك، اعتنى به غوتهلف برجستراسر وأوطو برتزل ، يتصدر هذا الجزء مقدمة مهمة لأوطو برتزل بين فيها أنه بعد موت فريدريك شفالي وضع غوتهلف برجستراسر على عاتقه إنجاز هذا الجزء لكنه توفي ولم يتمكن من مشاهدة نتائج أبحاثه حول هذا الموضوع، فأكمل العمل أوطو برتزل، مع كولد زيهر وهذين المستشرقين بدأ الاهتمام ب “القراءات القرآنية” .
كان المستشرق هاينرش سميرس قد بيَّن في مقدمة الجزء الثاني في أيلول من سنة 1919م[4] أن الجزء الثالث من تاريخ القرآن الكبير هو جزء مُخَصَّص للقراءات القرآنية ، وما ذكره صحيح، فالكلام عن القراءات القرآنية تناثر في مواضع بعيدة ومتفرقة في الجزء الأول والثاني، وهذا يُبين أن الكلام عن القراءات في الجزأين الأولين لم يكن مقصودا من قبل المصنفين وإنما ورد عرضا، ومع ذلك فهما يقدمان للباحث مادة علمية قابلة للنقد والمراجعة، أما الجزء الثالث فقد أُفرد خالصا للقراءات القرآنية ، وهو ما أشار إليه سميرس، أما الجزء الثالث الذي اعتنى به المستشرق أوطو برتزل[5] otto pretzlفقد صدر بعنوان ” تاريخ نص القرآن” وهو عنوان لا يتطابق مع مضامين هذا الجزء ومحتوياته ، وقد أشار برتزل في مقدمته لهذا الجزء إلى ما يثبت ذلك [6] .
لقد انتهت الصياغة النهائية لهذا الجزء لبرتزل ، ومع ذلك يبدو الاهتمام بالقراءات القرآنية باديا على اهتمامات برجستراسر وأوتو برتزل ، فقد تعاونا فيما بينهما على خطة عمل مشتركة تهتم بمعالجة كتب القراءات على أساس المصادر المخطوطة ، نعني بذلك : تحقيق مصادر كتب القراءات ومعالجتها على الطريقة الاستشراقية ، كان برتزل قد نشر مجمل ما يتعلق بالقراءات القرآنية من دراسات وأبحاث في مجلة ” إسلاميكا ” ، في الجزء السادس من سنة 1933م، في الصفحات: 1- 47- 230- 246-290- 331، هذه التجربة مكَّنته من توسيع الكلام في الموضوع في الجزء الثالث الذي تولى صياغته النهائية في كتاب ” تاريخ القرآن ” لكنه لم يكن يخفي اعتماده على ما تركه برجستراسرg.bergestrasser [7]من دراسات حول القراءات القرآنية بصفة خاصة ، يقول : ( فيما يتعلق بالفصل الخاص بقراءات القرآن، ترك برغستراسر وراءه مواد كثيرة جاهزة للطبع، ومنها مجموعة كاملة من القراءات المشهورة التي كان – حسب قوله – سيلحقها بفهرس للقراءات الشاذة، وحتى يتمكن من إعداد هذا الفهرس وضع دراسات تمهيدية لكتابين من كتب الشواذ أحدهما لابن جني والآخر لابن خالويه ، ولكنه لم ينته من تحريرهما، والواقع أني كنت مترددا أمام إخراج المجموعة التي انتهى منها برغستراسر حول القراءات المشهورة بدون أن أضم لها القراءات الشاذة ذات الأهمية الأكبر، وتبريري لهذا الاختلاف عن خطة برغستراسر هو أن قراءة السبعة التي تتصف بعشوائية انتقائها وبالقيود التي وضعها عليها المأثور تثير قليلا من الاهتمام . وفي الوقت ذاته فإن معالجة القراءات الشاذة تؤخر صدور الكتاب كثيرا، لا سيما مع ما ظهر بعد وفاة برغستراسر من مصادر كثيرة وغنية بالمعلومات، وآمل أن ما أعرضه من اختلافات مبدئية في النطق بين قراء القرآن، ومع الاستعانة بقواعد النطق العامة في التجويد يفي بالحاجات الملحة للعلم، وسيكون تحقيق خطة برغستراسر في إطار اقتراحه الذي أسماه “الحواشي النقدية للقرآن” ).[8]
بُني هذا الجزء على ثلاثة فصول :
خُصص الفصل الأول للرسم، وبُني على أربعة مباحث: المبحث الأول في أخطاء- كذا- النص العثماني، والثاني في صياغات النسخ العثمانية، والثالث في ضبط الكتابة، وهذا العنصر عولجت فيه ثلاثة نقط : الأولى في المصادر، والثاني في أهم خصائص ضبط الكتابة في النص العثماني، والثالث في ضبط أوراق لويس[9]، أما المبحث الرابع فخُصص للصياغات والقراءات غير العثمانية تمت معالجته من خلال العناصر الستة الآتية : المصادر، ونص ابن مسعود، ونص أُبَي، ونص أوراق لويس، والترجمة السريانية المزعومة لنص قرآن غير عثماني، وانتصار النص العثماني.
واستقل الفصل الثاني ببحث موضوع القراءة، بُني هو الآخر على ثلاثة مباحث: المبحث الأول في مسائل أساسية، كذا سميت في العنوان، وهي تسعة مسائل رُتبت على الحروف الأبجدية، الأول منها في المصادر، والثاني في العلاقة مع الرسم، والثالث في صحة اللغة، والرابع في مبدإ التقليد، والخامس في مبدإ الغالبية، والسادس في توجيه القراءات، والسابع في تدريس القرآن والقراءات، والثامن في نقد الروايات، والتاسع في المذهب السلفي. و المبحث الثاني في القراء والقراءات عولجت فيه النقط الخمسة الآتية : الأولى في المصادر، والثانية في لمحة عن القراء القدماء ، والثالث في التطور التاريخي، والرابع في نظام السبع والعشر والأربع عشرة قراءة ، والخامس في خصائص القراءة المشهورة واختلافاتها. أما المبحث الثالث فعولجت فيه كتب القراءات التي تَمَّ بحثها من خلال إحدى عشرة نقطة، الأولى في الحقبة القديمة، والثانية في نشأة كتب القراءة المشهورة، والثالثة في تطور نظام القراءات السبع الكلاسيكية، والرابعة في توسيع نظام السبعة، والخامسة في مصادر القراءات الشاذة، والسادسة في كتابات حول المفردات، والسابعة في كتابات حول التجويد، والثامنة في الكتب الخاصة بالوقف، والتاسعة في كتابات حول تعدد الآيات، والعاشرة في أعمال حول كتابة القرآن، والحادية عشرة في كتب تفسير القرآن كمصادر لعلم القراءات.
أما الفصل الثالث فأُفرد لمخطوطات القرآن، كُسر على خمسة مباحث مع ملحق، المبحث الأول في الوضع الراهن لأبحاث المخطوطات، والثاني خط المصاحف القديمة، والثالث في تزويد المصاحف بعلامات القراءة والأجزاء وعناوين السور، والرابع في تاريخ المخطوطات وتحديد أماكن كتابتها، والخامس في نسخ القرآن الحديثة، أما الملحق فيتضمن نماذج من مخطوطات قرآن قديمة، ثم أُلحقت بهذا الجزء الفهارس الضرورية للأجزاء الثلاثة.
تعمدتُ عرضَ مضامين هذا الجزء لأُبيِّنَ للقارئ ما يلي:
أولا: أن المادة العلمية التي تَمَّ عرضُها وبحثُها هي مادة وفيرة ، متنوعة ومتعددة وعليها مدار البحث في القراءات القرآنية ، إذا ما أضفنا إليها المواد السابقة المضمنة في الجزأين السابقين اتضح أن المستشرقين نزلوا بثقلهم إلى ساحة القرآن الكريم، وأن الغرض من كل ذلك هو إنتاج معرفة من نوع معين، إذا لم تكن صالحة لنا وللقرآن فهي صالحة لهم.
ثانيا : عرضتُ المادة العلمية على الطريقة التقليدية ، فقد اعتمدت نظام الفصول والمباحث مع اعتماد نظام الترقيم الأبجدي لتكون أبلغ في التأثير.
ثالثا : المنهج الذي ساد في البحث هو المنهج الفيلولوجي ، وهو المنهج الذي يُعنى بدراسة الآثار العلمية والمخطوطات القديمة بُغية إعادة تركيب معرفة جديدة من خلالها، وهو المنهج الذي. أرسى دعائمه المستشرق سلفستر دي ساسيantoine isaac silvestre de sacy [10]
رابعا : اعتمد الباحثون المستشرقون أسلوب المقارنة والنقد ، وقد احتلت المصادر المعتمدة في البحث مكانتها الخاصة ، فمصادر المستشرقين المتقدمين قوبلت بالاحترام وبالتقدير، تَمَّ اعتمادها والبناء عليها بل الإشادة بها في بعض الأحيان ، أما المصادر العربية فهي مجال للأخذ وللاقتباس مع الحيطة والحذر ، وكل ذلك يخضع للتأويل والنقد والتحليل .
تلك كلمة موجزة حول كتاب “تاريخ القرآن” بصفة عامة والجزء الثالث منه بصفة خاصة، ولإتمام الفائدة لا بد من الإشارة إلى الدراسات السابقة في الموضوع ، وهي النقطة التي سنتولى الإشارة إليها في الفقرة الموالية إن شاء الله .
2- الدراسات المتوفرة في الموضوع:
من باب النزاهة العلمية أن يشير الباحث إلى الدراسات الموجودة في الموضوع، لأن الغرض من ذلك الكشف عن هذه الجهود وبيانها حتى تعتمد في البحث العلمي، ثم تلافي التكرار والمعاودة .
تتوفر المكتبة العربية والإسلامية على جهود طيبة ومخلصة في معالجة جهود المستشرقين حول تاريخ القرآن الكريم لكن الكتابات في تقويم جهود المستشرقين حول القراءات القرآنية بصفة خاصة ضئيلة جدا، فباستثناء ثلاثة عناوين آو أربعة لا تكاد تظفر بشيء ذي بال في الموضوع، لا سيما الشبهات المثارة حول القراءات القرآنية في كتاب تاريخ نولدكه، والموجود منها انصب على دراسة آراء وأبحاث المستشرق المجري جولد زيهر، والحق أن جولد زيهرignaz goldziher[11]كان من السبَّاقين من المستشرقين لفتح موضوع القراءات القرآنية وذلك في كتابه المشهور ” مذاهب التفسير الإسلامي ” ، كان الاعتماد على هذا الكتاب بارزا في تاريخ القرآن لنولدكه ، لا سيما في الشبهة التي أطلقها في التاريخ فتلقفها كثير من المستشرقين من أن خُلُوَّ الخط من النقط والشكل كان هو السبب في اختلاف القراءات ، وان المحاولات التي قام بها الخليفة عثمان بن عفان كانت بدافع سياسي[12] مع قضايا أخرى كثيرة كان الاعتماد فيها على زيهر، وبمجرد ترجمته إلى العربية[13] وذيوع صيت الشبه التي تضمنها تَمَّ الرد عليه من قبل مجموعة من الباحثين والشيوخ المتخصصين في اللغة العربية وعلم القراءات القرآنية، نذكر منهم :
أ- الشيخ عبد الفتاح عبد الغني القاضي في كتابه ( القراءات في نظر المستشرقين والملحدين ) ، صدرت طبعة عن دار مصر للطباعة في ربيع الآخر من سنة 1402ه ، وطبعة أخرى أنيقة عن دار السلام للطباعة والنشر بمصر في طبعتها الأولى المؤرخة ب1426ه الموافق ل 2005م.
تتبع الشيخ شبه كولد زيهر شُبهةً شُبهةً ، ونقلها بأمانة علمية ، ثم َردَّ عليها ردا علميا، يعلق الشيخ فيقول : ( وقد تبين لي بعد البحث الهادئ والتمحيص المتريث أن جولد زيهر في بحثه في القراءات قد حاد عن الجادة، وتنكب الصراط السوي ، وجانبه التوفيق فيما كتب، وتورط في أخطاء ما كان لمثله – وهو واسع الاطلاع كما يصفه بعض من ترجم له- [14]، ومنهجنا في البحث أن نتتبع كتاب “جولد زيهر” وننقله بنصه ثم نأخذ في مناقشته فيما كتب، ونقيم من براهين الحق ما يدمغ باطله ويزهقه ، والله الموفق والهادي إلى أقوم سبيل ) [15].
ب- الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي في كتابه”رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات”، صدر عن مكتبة نهضة مصر بالفجالة، في شعبان من سنة 1329ه الموافق لشهر فبراير من سنة 1960م، صدر ضمن مجال الدراسات القرآنية واللغوية كما هو مثبت أعلاه، والكتاب وإن كان عنوانه لا يظهر فيه ما نريد إلا أن مضمونه كله ردود على جولد زيهر وشبهه ، يستهل المصنف في مقدمة الكتاب بقوله: (هذا بحث يعالج رسم المصحف، ومكانته في الاحتجاج للقراءات، وقد دفعني إلى معالجة هذا الموضوع رأي قرأته للعالم المستشرق إجنتس جولد زيهر في كتابه “مذاهب التفسير الإسلامي” مفاده أن الخط العربي الذي كُتبت به المصاحف لخلوه من النقط والشكل كان سببا في اختلاف القراءات، وقد أدَّى ذلك إلى اختلافات نحوية ومعنوية أيضا…[16]، قرأت ما قال جولد زيهر وتدبرته فإذا بي أراه يهدم النقل عن الأئمة القراء، وينكر صلة هذه القراءات بالسند عن الرسول ” عليه الصلاة والسلام”، ومعنى ذلك : أن ما كان من هذه القراءات متصلا بخصوصية الخط العربي – وهو كثير – ليس مما نزل به جبريل على قلب الرسول، وليس من الأحرف السبعة التي نص الرسول في صحيح ما روي عنه أن كلها شاف كاف[17]، ومعنى ذلك أيضا : إنكار هذا القرآن في الجملة والتفصيل، ثم إنكار ما دار حول نصه الكريم من ثقافات متعددة الألوان، وفي ذلك من الخطورة ما فيه).[18]
وعلى الرغم مما تثيره مثل هذه الشبهات من تشنجات عند الباحث المسلم وعند كل غيور على دينه وكتاب ربه فإن الباحث ترك العاطفة جانبا، وتناول البحث بروح البحث العلمي” البعيد عن التعصب الديني ومزالقه” ، فكانت معالجته للموضوع معالجة منهجية، علمية ومنصفة.
هذه بعض الرسائل العلمية التي اتجهت صوب نقد شبهات كولد زيهر ، قمنا بالإشارة إليها لجديتها وشهرتها، وفي الموضوع مقالات أخرى يمكن الرجوع إليها إذا رغبنا في التوسع والتطويل، لكن إلى جانب ما ذكره زيهر هناك شبهات أخرى بَنَتْ على ما تقدم وزادتْ أمورا أخرى، سنقف إن شاء الله تعالى على بعض ما أثير في كتاب تاريخ القرآن لنولدكه ، نسأل الله التوفيق والتأييد والتسديد، “وفوق كل ذي علم عليم “.
3- المصطلح القرائي في اللغة الإستشراقية :
ليست القراءات القرآنية مجالا للتبديل والتحويل، ولا هي مجال للتغيير والتحرير، فمجالها العلم، وقد دخلت إلى ميدان التعلم بالعلم، ولذلك فالكلام عنها لا يكون إلا ب “العلم” ومن منطلق “العلم”، القراءات ليست مجالا للظن أوللتخمين، ولا هي ميدان لتطبيق المنهج الفيلولوجي أو الهيرمينوطيقي أو اللسني أو أي منهج من مناهج العلوم الإنسانية .
من مستلزمات علم القراءات أن يجيد المتكلم في الموضوع قراءة القرآن بقراءةٍ من إحدى القراءات السبعة أو العشرة المعتبرة، لأن من مستلزمات الفهم والإفهام التطبيق ، و ” التطبيق ” وسيلة من وسائل علوم التجريب ،والمستشرقون المتكلمون في القراءات القرآنية لسانهم أعجمي ، لا يجيدون ذلك ولا يطيقونه ، وإذا تعذر ذلك فعلى الأقل لا بد من المحافظة على مكونات العلم الذي من خصوصياته المحافظة على المصطلحات القرائية مبنًى ومعنًى ، والمصطلحات كما هو معلوم هي نواة العلوم.
عند النظر يتبين أن نولدكه ومن تبعه غيَّرواكثيرا في معاني المصطلحات وحملوها ما لا تحتمل، من هذه المصطلحات مصطلح “القراءة” الذي يشتق منه اسم “القرآن” واسم “القراءات” المقصودة بالبحث هنا، ويذهب نولدكه إلى أن “قـرأ” هي كلمة حضارية لا يمكن أن تنشأ عند العرب البدو، ولذلك لا يمكن أن19 تكون كلمة سامية قديمة، وافترض أنها انتقلت إلى بلاد العرب من شمال الجزيرة، وأعطى لمصطلح قراءة معنى ” نادى ” لأنه هو المعنى الأصلي للكلمة في اللغتين العبرية والآرامية ، أما اللغة العربية – حسب فهمه – فهي لا تعرف الكلمة بهذا المعنى ، ثم عاد فقرر أنها مأخوذة من اللغة العبرية بناء على قرائن واهية لا تصمد أمام البحث اللغوي الأصيل، أما كلمة “اقرأ” في سورة العلق[19] فقد فسرها بتفسير غريب وهو: “عظ”، ثم رتب على هذا كله أن كلمة “قرآن” لم تتطور داخل اللغة العربية فهي مأخوذة من كلمة سريانية ومطبقة على وزن فعلان .[20]
هكذا يحاول نولدكه أن يرتب على أمية العرب وأمية النبي عدم أصالة القراءة ليربطها باللغة العبرية والآرامية بتأويل لسني غير مقنع ، والمعنى الذي ذهب إليه في تفسير الكلمة من سورة العلق يشبهه ما ذهب إليه المستشرق ألويس شبرنجر[21] حين قدم إفادة عجيبة لا تخلو هي الأخرى من الغرابة، فقد زعم أن ” اقرأ ” في السورة تعني ( اقرأ كتب اليهود والمسيحيين المقدسة ) . ولا غرابة في ذلك فإن نولدكه كان يتعاون مع شبرنغر في إنجاز هذا النوع من الأبحاث ، وإلى شبرنغر يُعزى إخراج كتاب “الإتقان في علوم القرآن” للسيوطي ، وكتب في سيرة النبي مع ترجمة لبعض آيات من القرآن في ثلاثة أجزاء أعانه عليها تيودور نولدكه . [22]
أما أوطو برتزل فإنه يسمي الأمور بغير مسمياتها ، يعني أنه يستخدم مصطلحات خاصة من دون المحافظة على المصطلح القرائي الذي هو أصل في الفهم وفي البحث والمعالجة ، فهو يطلق على (الإدغام) (الدمج)، والدمج شيء والإدغام في القراءات شيء آخر[23] ، ويطلق على (الوقف) (القطع) يقول: (من ناحية أخرى من الممكن أن تقطع الكلمة بعد الحروف القابلة للوصل في نهاية السطر)[24]، ويطلق على (الإخفاء) (الاختفاء)، والأول ليس هو الثاني، لأن الأول مصطلح والثاني ليس بمصطلح، يقول: ( تختفي الواو والياء أحيانا باعتبارهما شبهي حركة دون سبب وجيه)[25] .
وتعتري تعابيره خلل واضح حين يحاول تحديد بعض المصطلحات من مثل: (التواتر) و(المشهور) و(الشاذ) من منطلق علم أصول الفقه أو اللغة أو النظر فيوقعه تحديده ذاك في البعد والغرابة، يقول: ( تتوج النظام الجديد بانتقال تعبير “التواتر” من مصطلح نقد التقليد ومن أصول الفقه إلى علم القراءات، بوصفه الشكل المحكم للمعتقدات التي تكونت في الماضي، والمقصود بهذا التعبير الرواية التي تعود إلى مصادر عديدة ومختلفة، والقراءات المشهورة هي من نوع التواتر، وروايتها في كل جيل لا تستند على خبر الواحد والآحاد بل على التطابق العام، والبعض لا يستعمل تعبير “مشهور” بالمعنى العام أي معترف به بل بالمعنى الاصطلاحي الذي يضعه في الدرجة الثانية بعد التواتر، الذي يتكافأ معه واقعيا لكنه في الشهادة لا يفي تماما بشروطه) [26]، لم يهتد برتزل إلى أن (القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول) [27]، كان السلف الأول من الصحابة والتابعين ينصحون بقراءتها كما عُلمت ،فهي إذن رواية، وللرواية قواعدها وفنونها ، فإذا لم تتحكم قواعد علوم الرواية في تحديد مفاهيم تلك المصطلحات فلا يمكن لأي علم من العلوم ولو كان علما إسلاميا أن تتحدد من خلاله بله أن تتحدد من علوم النظر.
لما كان للتواتر صفة القبول المطلق -وهو الذي حظي به القرآن الكريم- اعتبر مرد ذلك -عند برتزل- إلى مدرسة أطلق عليها ( مدرسة التواتر السلفية ) أو ( مدرسة التواتر) [28] ، وهو نعت بعيد عن حقيقة الوصف ، لا توجد مدرسة بهذا الاسم في تاريخ القراءات القرآنية ولا في تاريخ عالم الرواية في الإسلام [29]، كأني به يريد أهل الحديث والأثر، وهم أهل الرواية والدراية ، دليل ذلك انه اضطرب في تعريف السند القرائي ، فعرفه بتعريف فكري بعيد عن الألفاظ العلمية والتعابير الصناعية [30]، تماما كما قعقع المستشرق الأمريكي آرثر جيفري في مقدمة كتاب المصاحف حين زعم بأن أهل العقل يهتمون بالمتن وأهل النقل والأثر يهتمون بالسند [31].
4- اعتماد أسلوب مقارنة مصاحف الصحابة بمصحف عثمان :
اعتمد نولدكه وتلاميذه ومن تبعه أسلوب المقارنات، وهي مقارنات اعتباطية لكونها تتم بين أطراف غير متجانسة، يقارنون الإسلام بالمسيحية واليهودية، والقرآن بالتوراة والإنجيل، واللغة العربية بالعبرية والآرامية وغيرها، كما يقارنون بين كتب القراءات القريبة والبعيدة في الزمن، وبين الأعلام وإن تباينوا، وبين القراءات وإن اختلفت.
هذا النوع من المقارنات هو سمة كتاب تيودور نولدكه ، ومن المقارنات التي اعتمدها وسعى إلى بحثها المقارنة بين مصحف عبد الله بن مسعود الذي أطلق عليه ” نص ابن مسعود”[32]، ومصحف أُبَي بن كعب الذي أطلق عليه ” نص أُبَي”[33] ومصحف عثمان بن عفان الذي أطلق عليه هو الآخر “نص عثمان” .
بدأت المقارنة أولا بين نص ابن مسعود ونص أُبي، أفضت إلى إصدار أحكام غير مرضية علميا، نتأمل هذه المقارنة التي يقول فيها برتزل ما يلي: (تعود أسباب هذا الاختلاف في صفة الرواية لابن مسعود ولأُبي إلى اختلاف الظروف الخارجية للتأثير الذي مارسه كلا النصين، فكما يشير إليه التأرجح حول سنة وفاته لم يلعب أُبي بعد وفاة محمد أي دور مرموق، وسواء بسبب موته المبكر أو لأسباب أخرى فقد أُزيح عن المسرح السياسي، وانتشر نصه القرآني على الصعيد الشخصي فقط ، أما ابن مسعود فكان واليا على الكوفة، وكان يملك بالتالي إمكانية استطاع استغلالها بنجاح لإيجاد اعتراف رسمي بقرآنه، ويبدو أيضا أن مصير نسختي القرآن، أي نسخة ابن مسعود ونسخة أبي كان متغايرا، فقد اختفت نسخة أُبي باكرا وربما لم تنسخ أبدا، أما نسخ ابن مسعود فأخذ عنها لمدة طويلة ) [34].
أما المقارنة بين نص ابن مسعود ونص عثمان أجمعين فقد ساق فيه كلام غولد سيهر معتمدا على استنتاجاته في الموضوع، يقول، (عالج غولد سيهر كتابات ابن مسعود وقراءاته وكافة قراءات القرآن من منظور الاختلاف عن نص القرآن الحقيقي ، وتوجد في الواقع حالات كثيرة في الكتابات والقراءات المنسوبة لابن مسعود غير فيها النص العثماني خطأ، أو على الأقل يظهر فيها دافع للاختلاف عن النص العثماني، أي أن نص ابن مسعود يصبح نصا ثانويا، والدوافع الأهم، وإن لم تكن الأقوى، تشمل ما أبرزه غولد تسيهر من إزالة المخالفات من حيث المحتوى أو الإيضاح الموضوعي أو التوضيح اللغوي للنص”…”)[35].
تضمنت هذه المقارنات كلاما يستوقف، كلام عام وغير محدد ، وأحكام مطلقة وغير مقيدة، واستنتاجات بعيدة عن العلم والمعرفة، وأقوال غير صحيحة ولا تتطابق مع حقائق التاريخ والواقع.
لقد تَمَّ التوقف كثيرا عند نص ابن مسعود ، وترتب عن هذه المقارنة استخلاص الاختلافات الموجودة بين المصاحف ، وقد ترتب عن هذه الاختلافات وجود اختلافات في القراءة ، وهو استنتاج بعيد ، ذلك أن مصاحف الصحابة لم تكن كاملة ومهذبة لأنها لم تكن خاصة بالقرآن وحده بل كانوا يكتبون إلى جنب القرآن الحديث والفقه والتفسير، لذلك بادر الخليفة عثمان رضي الله بجمع الصحابة على مصحف إمام جرد خطه من النقط والشكل ليحتمل ما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه مسلم، ولم يكن الاختلاف راجعا لمصحف عثمان ولا لمصاحف الصحابة وإنما هو راجع إلى ما حفظ في الصدور، والتعويل في اختلاف القراءات المسندة المشهورة الصحيحة على الحفظ لا على مجرد الخط .
أما الاختلاف بين القراءات الصحيحة المتواترة والتي تلقتها الأمة بالقبول فهو من نوع الاختلاف الطبيعي، الاختلاف الذي يدخل في مجال التيسير على العباد”، هذه الأمور كلها لا تعني عند نولدكه ومن تبعه شيئا [36].
سمح تجميع مواد النصين ومحاولة مقارنتها بنص عثمان بإبداء ملاحظات لم يكن القرآن المجمع عليه اليوم في حاجة إليها، فهي ليست واقعية من حيث القراءة والتعبد، ولا عملية من حيث القبول والرضى، ولا أدري هل يمكن الاطمئنان إلى المواد التي جمعها لنص ابن مسعود ونص أبي بن كعب[37]؟ هل ما ذكره صحيحا ؟ وهل بقيت تلك النسخ على أصلها الذي كانت عليه يوم جمع المصحف الإمام؟ وعلى فرض صحتها ما الجدوى بمقارنتها بنص عثمان بن عفان؟ فكأني بهم فهموا أن النص هو نص شخصي لعثمان ، كتبه لنفسه ثم ألزم الصحابة به ؟ والواقع غير ذلك، لقد جمع عثمان المصحف من عدة صحف، وأمر اللجنة أن تكتبه بلغة قريش، ورضيت الأمة العمل بالقبول وأجمعت إليه .
إن الاهتمام بمصحف ابن مسعود وأُبي بن كعب ساد فيها نوع من التكلف، ونوع من الإفراط في المعالجة والكلام ظنا منهم أن عثمان بصفته خليفة المسلمين أقصى وجودهما من الاعتبار مبقيا على مصحفه الذي لا يخلو هو أيضا من الغمز والطعن، والغرض البعيد القريب هو التشكيك في مصحف عثمان نفسه، وزرع بذور الريبة في الموروث العقدي للأمة كما لو أن الأمة الإسلامية لا تملك معايير الصواب والخطأ، فاختفاء مصحف ابن مسعود ومصحف أبي كان خطأ، ووجود مصحف عثمان بن عفان كان خطأ أيضا، والعودة إلى اعتماد المصحفين المختفيين هو الصواب، وهجران مصحف عثمان هو الصواب في المقابل، يقول برتزل: (إن المراجع الكوفية تقودنا إلى مكان وزمان حيث لا تزال القراءة المتصلة والمنسوبة لابن مسعود تتصف بالحيوية وبالذكرى الحية ) [38].
5- حول رسم المصحف :
يستهل برتزل كلامه في الفصل المتعلق ب (الرسم) وبالضبط في الفقرة الأولى التي عنونها ب “أخطاء النص العثماني” بأن المسلمين يعترفون منذ زمن طويل بأن نص القرآن الذي أصدرته اللجنة التي عينها عثمان لم يكن كاملا، معتمدا في ذلك على روايات واهية ، بعضها غير موثق والآخر غير صحيح البتة[39]، أما الشواهد التي استند إليها في هذا التغيير فكلمات من القرآن تقرأ بصيغ مختلفة حسب طبيعة القراءة ، وكون ذلك راجع إلى اختلاف القراءات هو نوع من تبرير الخطإ حسب تحليله، يقول : ( فالذين يتحملون مسؤولية نص القرآن، أي عثمان ولجنته، وبالطبع النبي نفسه، سيدفعون على أنفسهم الاتهام بوجود مآخذ لغوية في المحتوى بإلقاء مسؤوليتها على الكتاب، وعلى أي حال فإن هذا المسلك التبريري ساذج لأنه ينطلق من نظرة بشرية بسيطة لإنتاج نسخة القرآن الرسمية، بحيث يجعلنا نرد نشوء هذه الروايات على كل حال إلى وقت مبكر جدا ) [40].
في نقطة من الفصل الثاني المتعلق ب (القراءة) والمرموز إليها في الترتيب ب “ب-العلاقة مع الرسم” يثير أوطو برتزل شبهة خطيرة لا تقل خطورتها عن الشبه المثارة في الكتاب، وهي شبهة متوارثة ينص فيها على أن القرآن الذي هو كلام شفاهي مسموع من الوحي يخالف القرآن المكتوب الذي هو في النص العثماني[41]، وهي محاولة استشراقية يوهم بها أن للمسلمين نوعين من القرآن نوع مسموع من الوحي، تناقلت الأفواه معرفته وحفظه، وقرآن أجمعوا عليه ، كُتب في وقت متأخر من الزمان يُدعى ” نص عثمان”، ثم يعود ليرتب على كل ذلك أن القرآن المسموع لم يتحول إلى مركز الثقل في النص القرآني بل كانت الغلبة للنص المكتوب، ثم يستشهد بأن عمل زيد بن ثابت اعتمد على الأصول المكتوبة في جمع القرآن، هكذا تحول القرآن من النقل الشفوي إلى النص المكتوب ، يحاول برتزل أن يدعم أطروحته هاته بالنسخ المكتوبة التي أرسلها عثمان بن عفان إلى الأمصار لتنشأ منها قراءات مختلفة لتعود الدائرة إلى النقل الشفوي لكن بصورة أخرى[42] .
6- القراءات الشاذة ومحاولة النبش في الذاكرة :
يتوقف عند “القراءة الشاذة”، ويبدأ بمصطلح “شاذ”، ويقر بأنه مأخوذ من علم النحو، ثم يعطيه معنى غريبا، فالشاذ في نظره هو الموصوف بالنسبية، ولا يكتمل محتواه إلا بإضافة لاحقة عليه، ويقارن بين قولهم في اللغة “شاذ عن القياس” وقولهم في القراءات ” شاذ عن قراءة الأمصار” [43] ، وهذا التحديد بعيد جدا عن صناعة العلم، غير مأخوذ من علم النحو ومن علوم العربية، فعلماء القراءات حددوا مفهوم الشاذ في صناعتهم، وهو المعنى الذي نقله في الصفحات المتقدمة واضطرب فيه حين قال: (الشاذ هو الآن كل ما كان خارج القراءات المشهورة المعترف بها، والخلاف هو عما إذا كان هذا الشاذ يقتصر على القراءات السبعة أو العشرة أو يزيد عنها ) [44].
قلت: الشاذ لا يقتصر على القراءات السبعة أو العشرة، بل هو كل قراءة وراء السبعة أو العشرة، يقول العلامة الحافظ ابن الجزري ( ت 833ه) : ( كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن وجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين ، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد ابن عمار المهدوي، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة ، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه ، )[45].
يتوقف برتزل عند مصادر القراءات الشاذة، ويستفيض في ذكرها في محاولة منه للتأكيد على وجودها ضمن مصادر محفوظة، فالشاذ –عنده- لا يعني القراءة التي أعدمت بمرة وزالت من الوجود ولكنها -في نظره- المبعدة عمليا من الاستعمال عند قراءة القرآن مع وجودها (وقد استمر وجودها في التفسير بلا حدود كموروث قابل للنقاش ) كما يقول[46] .
القراءة التي حكم عليها بالبطلان وبالضعف، ومنعوها منع تحريم في الصلاة وفي خارج الصلاة، وتجاوزها التاريخ والعلم يتم نبشها من جديد بدعوى أنها موجودة، وليس كل ما هو موجود له صلاحية الوجود، وصلاحية الاعتبار بدعوى أنه موجود، وأعتقد أن برتزل ونولدكه وسيهر وغيرهم لا تهمهم القراءات الشاذة في حد ذاتها لأن لها صلة بالقرآن كيفما كان الحال لكن الذي يهمهم هو التشويش على المتفق عليه، و إعادة الاعتبار للمُلغَى والمتجاوز.
7- لغة البحث والمعالجة :
اللغة هنا هي أداة للبحث والمعرفة، كل المعارف والأفكار تُمَرَّرُ عبر اللغة، كان الأستاذ إدوارد سعيد قد غمز لغة الاستشراق في كتابه “الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء”[47]، حينما بين أن الحقائق التي ينقلها الاستشراق عن الشرق هي إيهامات لأنها حقائق محبوسة في اللغة، مفرقا بين الحقائق التي تنقلها لغة الاستشراق عن الشرق وحقائق الشرق في واقع الشرق [48].
ما ذكره الأستاذ إدوارد سعيد صحيحا تَبَدَّى واضحا في كتاب “تاريخ القرآن” لنولدكه ، لم تكن اللغة المستعملة في المعالجة مستقلة عن الميولات والمصالح والأهواء والأحقاد بل سخرت لخدمة مقاصد الاستشراق وأهدافه، من بين هذه الأهداف نسف نولدكه لربانية القرآن وقدسيته، وإرجاعه إلى الطبيعة البشرية، فتباين أسلوب القرآن الكريم يرجع إلى اختلاف أوقات تأليفه من قبل محمد()، ففيه – حسب ظنه- مقاطع مضطربة اضطرابا شديدا، وأخرى لغة عادية فضفاضة قريبة من النثر، يتكلم الله في بعضها وفي بعضها الآخر يكون فيها الكلام لغيره ، ولا يتوان في وصف القرآن بأنه خطابي أكثر مما هو شعري، ويرجع هذه القضية إلى أن هم النبي كان هو التعليم والخطابة لا الشعر البحث [49]، مثل هذا النهج سار عليه برتزل حين زعم أن النبي ترك للكتاب الاختيار بين الخاتمات الشكلية للآيات مثل ” عزيز حكيم ” أو ” سميع عليم ” أو ” عزيز عليم ” محيلا على تفسير الطبري وليس في الطبري ما يشهد لاه على ذلك إنما هو انتحال لا مبرر له [50].
إن نظرة مجملة في لغة الكتاب يتبين إنها لا تخلو من استخدام عبارات حرب والصراع، فأثناء مقارنة برتزل بين نص عثمان ونص ابن مسعود وضع في عنوان أطلق عليه: (و- انتصار النص العثماني)[51]، واستخدم كلمة القضاء التي تعني الإبادة والصرع والفناء حين قال: (قد يكون عثمان حاول القضاء على نسخ نصوص القرآن المخالفة)[52]، واستخدم عبارة “أزاح” و”تسيد” من مثل قوله وهو يتكلم عن قراءة الحسن وأبي عمرو: (وأزاحه أبو عمرو عن مركزه، وفي بعض الأحيان كانت لأبي عمرو أهمية كبيرة، وبدا أنه تسيد الشرق)[53]، وقوله:(نافست في البصرة قراءة أبي عمرو أحيانا قراءة عاصم الجحدري)[54]. وقوله: (وفي وقت مبكر ظهرت معارضة لقراءة حمزة) [55]، إلى غير ذلك من الألفاظ والعبارات الكارثية الدالة على الحرب والعدوان، وكأن ساحة العلوم والمعارف الإسلامية هي ساحة للمعارك والصراعات .
8- خلاصـــة :
عرضت في هذا البحث لمواقف المستشرقين من القراءات القرآنية، وبما أن المواقف متعددة بتعدد المدارس الاستشراقية الغربية، ومتنوعة بتنوع المصادر والكتابات حول الإسلام بصفة خاصة فقد آثرت الكلام عن مواقفهم من خلال كتاب “تاريخ القرآن” لتيودور نولدكه، وذلك لسببين :
الأول : لشهرة الكتاب وشهرته، وذيوع صيته في الثقافة الغربية بصفة عامة والاستشراقية منها بصفة خاصة حتى اعتبر أصلا لكل كلام غربي عن القرآن الكريم .
الثاني : أنه تضمن أسماء لامعة في تاريخ الاستشراق، اعتبروا على مر التاريخ شيوخ الثقافة الاستشراقية وآباؤها المؤسسين ابتداء من تيودور نولدكه وانتهاء بأوتو برتزل ، ومن صاحبهم وتعاون معهم على إنجاز هذا العمل.
تضمنت هذه المواقف التوقف عند الشبهات التي أثاروها حول القراءات القرآنية من زوايا مختلفة، قمنا ببحثها في العناصر السبعة الآتية :
الأول : حول كتاب تاريخ القرآن، والثاني: في الدراسات المتوفرة في الموضوع، والثالث: في بحث المصطلح القرائي في اللغة الاستشراقية، والرابع في معالجة أساليب المقارنة، ومنها مقارنة مصاحف الصحابة ومنهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود بمصحف عثمان بن عفان ، والخامس حول رسم المصحف، والسادس في القراءات الشاذة ومحاولة النبش في الذاكرة، والعنصر السابع والأخير في لغة البحث والمعالجة .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1]– أنجز هذا البحث خصيصا للمشاركة في المؤتمر العلمي العالمي الذي عقده معهد دراسات المصاحف والقراءات في الفترة ما بين 10 إلى 12 يونيو 2011م بوانكشوط بالجمهورية الإسلامية الموريتانية حول القراءات القرآنية والمصاحف .
2- يلقب بشيخ المستشرقين الألمان ، كان له اطلاع واسع على الآداب اليونانية ، وعلى اللغة العربية وملما باللغة السريانية والعبرية وساعده على ذلك استطالة عمره الذي جاوز الرابعة والتسعين ، توفي في 25 ديسمبر من سنة 1930م. أنظر موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي ص 418-419
3 – من تلامذة نولدكه ، تخرج على يديه في اللغات الشرقية ، له أعمال كثيرة في الدراسات الإسلامية ، من أهمها أنه أعاد طبع كتاب ” تاريخ القرآن ” بعد تحقيقه والتعليق عليه في مجلدين وذلك في سنة 1919م ، له ترجمة في ” المستشرقون ” لنجيب العقيقي 2/41.
[4]– مقدمة الجزء الثاني من ” تاريخ القرآن ” ص 236.
5– مستشرق ألماني ولد بميونيخ في 20أبريل من سنة 1893 ، ارتبط اسمه بالدراسات الخاصة بالقرآن الكريم ، وصرف اهتمامه للغة العربية ولهجاتها ، قتل في حادث عسكري في 28 أكتوبر 1941 . له ترجمة في موسوعة المستشرقين لبدوي ص 53-54. [5]
[6]– مقدمة الجزء الثالث من ” تاريخ القرآن ” ص 439-440.
7– مستشرق ألماني ، ولد سنة 1886 وتوفي سنة 1933 ، تلقى الفلسفة واللغات السامية على يد أوكيست فيشر ، رحل إلى عدد من البلدان العربية والاسلامية ، أنشأ للقرآن معهدا في ميونيخ أتمه من بعده برتزل ، له إنتاجات علمية كثيرة ومتنوعة . أنظر ” المستشرقون ” لنجيب العقيقي 2/450-451.
[8]– المصدر السابق.
[10]– يلقب بشيخ المستشرقين الفرنسيين ، ولد في باريس في 21سبتمبر1758 ، اختار التخصص في الدراسات العربية والشرقية ، وكان يتقن اللغتين العبرية والعربية و اللغات الأوربية ،تقلد في مناصب كثيرة لها صلة بالمجال العلمي والأكاديمي ، له شهرة واسعة في اوربا ، تخرج على يده عددا من كبار المستشرقين من أمثال : فلوجل ووكازيميرسكي ورينو وراسموسن وستيكل وفليشر وغيرهم ، كانت وفاته بنوبة قلبية في 21 فبراير من سنة 1838 . له ترجمة في موسوعة المستشرقين ص ( 226-232).
[11] – مستشرق مجري الأصل ، من أئمة المستشرقين ، ولد في 22 يونيو من سنة 1850 من أسرة يهودية ، عني بالدراسات العربية والإسلامية وهو في السادسة عشرة من عمره ، تردد على البلاد العربية مثل سوريا ومصر كثيرا ، كانت وفاته في 13 نوفمبرمنسنة 1921.أنظر ” موسوعة المستشرقين ص (119-126).
[15]– القراءات في نظر المستشرقين والملحدين ، مقدمة الشيخ عبد الفتاح القاضي .
[16]– تقدم توثيق الشبهة من كتاب ” مذاهب التفسير الإسلامي ” .
[17] – أنظر مذاهب التفسير الإسلامي ص 53 وما بعدها.
[18]– رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات ، مقدمة المؤلف.ص 3.
[23]– تاريخ القرآن 3/419.
[24] – المصدر السابق.
[25] – المصدر السابق 3/492.
[26] – المصدر السابق ص 590.
[27] – حديث موقوف على زيد بن ثابت وعمر بن الخطاب ، أنظر ” النشر في القراءات العشر ” لابن الجزري 1/17 و 40 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، إشراف ومراجعة علي محمد الضباع.
45- النشر في القراءات العشر للحافظ أبي الخير محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجزري1/9 تحقيق علي محمد الضباع ، دار الكتب العلمية، بيروت.
[47]– صدر الكتاب باللغة الانجليزية بتاريخ 1978م ، وترجمه إلى العربية كمال أبو ديب: وصدرت الطبعة العربية عن مؤسسة الأبحاث العربية بتاريخ 1981م.