الأخلاق والزهد, الخطب المنبرية والوعظ والإرشاد, المواعظ والزهد والتصوف, مناهج الدراسة الجامعية

محاضرة في علاقة العلم بالأخلاق من خلال كتاب ” أخلاق العلماء ” للآجري. أ.د. محمد خروبات

محاضرة في علاقة العلم بالأخلاق من خلال كتاب ” أخلاق العلماء ” للآجري.

    المناسبة: قُدمت هذه المحاضرة لطلبة الجامعة ، قسم الدراسات الإسلامية بتاريخ 15 أكتوبر من السنة الميلادية 2019 ، الموافق ل 16 صفر من السنة الهجرية 1441 ، ننشرها حتى يعم بها النفع .

…………………………………………………………..

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :

  فهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم هو في موضوع الأخلاق ، وموضوع الأخلاق واسع وعريض ، لذا اختص هذا الكتاب بناحية من نواحيه ألا وهي (أخلاق العلماء) ، والحديث عن أخلاق العلماء ليس بالأمر الهين لأنه يمس النخبة المفكرة في المجتمع ، والطبقة الراشدة المستنيرة التي تتولى توجيه الناس وإرشادهم وتعليمهم  بُغية الرقي بهم من حال الجهل إلى حال العلم ، ومن حال التخلف إلى حال التقدم ، ومن حال السقوط والتدهور إلى حالة القيام ومواصلة السير ، ذلك أن تقدم المجتمع أو تخلفه إنما هو رهين بفاعلية علمائه فيه ، من هنا يأتي هذا الكتاب لا ليتكلم في علم العلماء  ولا في دورهم ولا في مكانتهم بل ليمسهم في نفوسهم . ويعالج مواطن الخلل الكامنة في مخابر ذواتهم ، لأن معالجة المخبر من شأنها أن تعين على سلامة المظهر، والله عزوجل يقول : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)[1] .

     لذلك قدمنا هذا الكتاب لأهميته والتي حددناها فيما يلي :

 أولا: حاجة العلم للأخلاق

  العلم في أمس الحاجة إلى الأخلاق ، وذلك لفساد نيات أهل العلم ، وتدهور أخلاق بعضهم ، بل عزوف الكثير منهم عن ممارسة العلم بلا أخلاق ظنا منهم  أن الأخلاق غير ضرورية للعلم ، والعلم إنما يُكتفى فيه بذاته ، وليس فيه حاجة إلى غيره ، كانت النتيجة المحصلة من ذلك هي أن العقل أصابته الدسمة  في مجال العلوم ، امتلأ إلى حد التخمة في حين بقي القلب فارغا ، وبفراغه من القيم امتلأ  بأمراض شتى سنعرض لبعضها، والكتاب عبارة عن مجموعة نصائح وتوجيهات أخلاقية وتربوية مفيدة للعالم وللمتعلم ، نسأل الله عز وجل أن ينفع بها .

ثانيا : علاقة الكتاب بصاحبه

       قيمة الكتاب في بربطه بصاحبه ، فصاحبه هو محمد بن الحسين بن عبد الله ، المكنى بأبي بكر الآجري ، وآجر هو أحد أحياء غرب بغداد ، فقيه شافعي ومحدث ، ولد قبل سنة  ثلاثين و مائتين من الهجرة ، وكانت وفاته سنة ستين وثلثمائة هـ ، مات بعد أن عمر ثمانين سنة ، وقد أهله عمره هذا إلى أن يصنف في الأخلاق مصنفات منها : (أخلاق حملة القرآن) ، وهذا الكتاب مضمونه غير بعيد عما نحن بصدده ، وكتاب (حسن الخلق) ، وهو مؤلّف مباشرة في الموضوع ، وكتاب (أخلاق العلماء) ، وهو الكتاب الذي نقدمه ، واعتقد أن كلام الإمام الآجري في موضوع الأخلاق سيصيب هدفه وذلك لتوفر عناصر الكلام العلمي وقواعده في المؤلف ، أو لنقل بعبارة العصر: إن للآجري آليات وأدوات للكلام في هذا الموضوع ، فهو من جهة فقيه ،وهذا الموضوع يشترط الفقه . ومن جهة ثانية محدث ، وكثير من أمهات الفضائل والكليات الخلقية والأحكام الشرعية في مجال الأخلاق إنما هي مستوحاة من النصوص الحديثية ، والكلام في الموضوع يحتاج العناية الحديثية ، ولا سيما في القرن الرابع الذي عاش فيه الآجري ، واعتقد أن للرجل مكانة علمية في مجال الحديث شهد له بها كل من أخرج له ترجمة في كتب الجرح والتعديل ، بل عنه روى المشاهير مثل أبي نعيم الأصبهاني ومحمد بن الحسين الفضل القطان ومحمود بن عمر العكبري وغيرهم ، وكان ثقة صدوقا ديّنا[2].والكتاب حققه ودرسه فضيلة أستاذنا الدكتور فاروق حمادة ، وصدر عن دار الثقافة بالدار البيضاء في طبعته الثانية .

ثم إنه_ من جهة ثالثة_ زاهد ، ورع ، تقي ، يدلنا على ذلك  أنه كان ممارسا للزهد ، معتقدا وعاملا بالتقوى والورع ، شهد له بذلك غير واحد  ، كما أنه أودع في الموضوع مصنفات مهمة ، منها كتابه ( التفرد والعزلة) ، وكتاب (النصيحة) ، وكتاب (التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة وما أعد لأوليائه) ، وهذه كلها مقومات أساسية للأخلاق ، وللكلام عليه ، فالزهد والتقوى والورع هي معايير حقيقية لتقويم الزهد وغرسه في النفوس ، والرجل لا ينبل في العلم ولا في الأخلاق إلا بهذه المعايير ، وهل تستقيم أخلاق العالم بلا تقوى ولا ورع ..؟ .

ثالثا: محتويات الكتاب

      وهي موضوعات الكتاب ، فقد استهل الكتاب بمقدمة ذكر فيه فضل أهل العلم على سواهم ، منوها بمرتبتهم ، ومذكرا بفضائل مهماتهم ،  وقد عزز أقواله فيهم بنصوص من القرآن والسنة.

 الباب الأول:  خصصه لذكر ما جاءت به السنن والآثار من فضل العلماء في الدنيا والآخرة ، وكالعادة فإن المؤلف كان يخّرج هذه الآثار بأسانيد تختلف درجتها ، فيها الصحيح والحسن وما دون ذلك ، وغالبية هذه الأحاديث موجودة في كتب السنة المعتبرة مثل الصحاح والسنن والمسانيد وإن اختلفت ألفاظها في الغالب ، وتعددت  طرقها إلى الصحابي الراوي ، وما يميزها أن الكثير منها جاء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها الموقوف على الصحابي كأبي الدرداء وعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عباس وغيرهم.

      وللآجري على هذه الآثار تعليقات طفيفة جدا من جهة موضوعها ، يذكر فيها فضل أهل العلم ، وخروجهم لطلبه، وفضل مجالستهم والمذاكرات الجارية بينهم لأن الفضل إنما في التعلم والتعليم جميعا ، وهو من الخير الذي جمعه الله لهم ، وختم هذا الباب بقوله : ( ولكن قد ذُكِرتْ لهم أوصاف وأخلاق فنحن نذكرها ، فمن تدبرها من أهل العلم رجع إلى نفسه ، فإن كان منهم شكر الله عزوجل على ما خصه به ، وإن لم تكن أوصافه منهم ،  وكان ممن عِلْمُه حجة عليه استغفر الله عز وجل ، ورجع إلى الحق من قريب)[3].

 الباب الثاني: أفرده لأوصاف العلماء ، وهو باب جامع لأحوال وصفات كثيرة كلها تليق لمقام لعالم ، وكل صفة من هذه الصفات تلزمها أخلاقها وآدابها ، وهي ضرورية لأنها مرتبطة بالمهمة التعليمية والتعلمية ، وهذه الصفات كالآتي :

1-  صفة طلب العلم ، ولها داعيان : الأول داعي ديني ، وهي حين يعلم أن الله عزوجل فرض عليه عبادته ، والعبادة تكون إلا ب “العلم “، والثاني أن المؤمن لا يحسن به الجهل ، فالجهل يُطرد عن طريق العلم ، ومن هذا كله يتبين أن العلم واجب ، وأنه فريضة عليه ، فعبادة الله كما أراد الله  تستلزم معرفة مراده من أحكامه ، وما شرعه لعباده، وهذا مدخل العلم.

2- صفته في مشيه إلى العلماء ، وهذه لها حالتان : الأولى حين يمشي منفردا عليه أن يكون للقرآن تاليا ، أو بالذكر مشغولا، أو يحدث نفسه بنعم الله ليشكره ، ويستعيذ بالله من شر سمعه وبصره ولسانه ونفسه وشيطانه، أو يختار من هذه الحالات ما يوافق حاله ، الثانية : حين يختار الرفيق والصاحب ، والصاحب إما أن يكون خيّرا وإما أن يكون شريرا ، وبما أنه نص على أن يكون ممن ينفع فُهم أن الشرير غير مرغوب فيه ، والصاحب النافع على حالتين:

  -إما أن يكون أعلم وإما أن يتساوى مع رفيقه في درجة العلم، وإما أن يكون دونه ، فإن كان أعلم فهذا خير ساقه الله إليه ، ليزوده بالعلم ويتعلم من وجوه الخير ، وإن كان مثله في العلم تذاكر معه حتى تترسخ معارفه ، وحتى لا ينسى، وإن كان دونه فهو خير ساقه الله إليه ليعلمه ، فإن أجر التعليم كأجر التعلم.

وفي الحالات كلها عليه بالرفق في المشي إلى أهل العلم ، أن يتحلى بالوقار والأدب ، لا يرى في مكتسب مشيه إلا الخير ، يخاف على نفسه من الانصراف إلى غير الحق ، محتاطا من عدوه الشيطان مخافة أن يزين له قبيح ما ينهى الله عنه ، مستعيذاً من علم لا ينفع ، حافظاً للسنن والآثار والفقه ، يطيل السكوت عما لايعنيه حتى يشتاق جليسه إليه ، وعليه أن يحاسب نفسه في الحالتين : حالة الإكثار من العلم ، وحالة الإقلال منه.

3- صفة مجالسته للعلماء : في هذه الصفة خصال جليلة منها التحلي بالأدب مع العلماء ، والتواضع لهم ، وخفض الصوت عند صوتهم ، ولا يقبل بالسؤال إلا بخضوع ، مبينا في سؤاله أنه فقير إلى ما يسأل عنه ، وأن أمره للدين ، فإن استفاد شيئا شكرهم عليه ، وعليه أن يجتنب غضبهم فإن أخطأ في حقهم رجع واعتذر ، لا يَضجُرُهم في السؤال ، ولا يكثر معهم الجدال ، ولا يماري السفهاء ، إن جمع العلم عنهم جمعه برفق.

4- صفته إذا عُرف بالعلم : إذا عُرف بالعلم بين الأنام ، واشتهر به واحتاج الناس إليه تخلق بصفة التواضع لثلاثة أصناف : لمن هو أعلم منه ، ولمن هو مثله ، ولمن هو دونه.

وعليه أن يصون علمه بأن لا يطلب به المنازل العليا إلا إذا تعين عليه ، لا يأخذ عليه ثمنا إلا إذا مهنة معينا فيها ، ولا يستقضي به الحوائج ، ولا يهجر الفقراء والمحتاجين إليه ، ولا بد لهذا العالم أن يكون له مجلس ، فإن كان له مجلس فعليه أن يُلزم نفسه حُسن المداراة لمن جالسه والرفق بمن سأله ، ففي المجالس من ذِهنُه بطيء عن الفهم ، وفيهم من يجهل عليه بظلم أو جهل ، وفيهم من يخوض فيما لا يعنيه ، وفيهم من يتخطى المجلس بسوء خلق وقلة أدب ، وهؤلاء يحتاجون من العالم الصبر والحلم والعفة والترفع عن الوقوع في هذه المخازي ، وعليه في جوابه على أسئلة السائلين أن يردهم إلى ما يعنيهم ، وأن يبدي لهم ما جهلوا ، لا يعنفهم بالتوبيخ القبيح ، ولا يزجرهم ليضع من قدرهم ، يقبل على من يراه محتاجا إلى علم يسأل عنه ، ويترك من يعلم أنه يريد الجدال والمراء ، فيسكت عن الجاهل حلما وينشر الحق نصحا ، وعليه أن يتجنب الدخول في الخلاف ، وألاّ يُجيب بما لا يعلم ، فإن كان لا يعلم قال : لا أعلم ، وأن يجيب من الكتاب والسنة والإجماع ، وعليه أن يسأل من هو أعلم منه أو مثله حتى ينكشف له الحق ، ويحذر من المحدثات في البدع أو المؤدية إلى الوقوع فيها ، لا يجالس أهل البدع ولا يماريهم ، يأمر بالاتباع وينهى عن الابتداع ، لا يجادل العلماء ولا يماري السفهاء.

    ومن الصفات التي يذكرها الآجري في هذا الباب صفة “المناظرة” ، فالمناظرة في أصلها مذمومة لأن العالم العاقل الفقيه المنتفع بالعلم لا يجادل ولا يماري ولا يغالب بالعلم ، ولا تكون جائزة إلا اضطراراً لا اختياراً ، كأن يناظر أحد من أهل الزيغ ليدفع باطله بالحق وإلا فالقاعدة عندالعلماء ألا يجالس العالم أهل الأهواء والزيغ ولا يجادلهم ، وردّ على من علّق التعلم والتفقه بالمناظرة ، واشترطها لحصولها بأن ذلك غير حاصل ، فالتعلم والتفقه ليس نتيجة المناظرة ، ولا هي سبب في تحصيلهما ، وساق في موضوع هذه الصفة أحاديث مسندة مرفوعة ، وأخرى موقوفة كلها في ذم المراء والجدل ، كما بيّن الزلل الناتج عن المناظرة لاختلاف المذهبين ، وتباين اجتهاد الطرفين ، يقول في الختم عليها : (من صفة الجاهل الجدل والمراء والمغالبة ، ونعوذ بالله ممن هذا مراده ، ومن صفات العالم العاقل المناصحة في مناظرته ، وطلب الفائدة لنفسه ولغيره ، كثّر الله في العلماء مثل هذا ، ونفعه بالعلم وزينه بالحلم)[4].

ثم سطّر موضوعا بعنوان: (ذكر أخلاق هذا العالم ، ومعاشرته لمن عاشره من سائر الخلق)، كتب تحته كلاماً نفيساً ، وخصالاً حميدة ،  يتعذر تلخيصها أو التصرف فيها ، وأنا أوردها بتمامها حتى يحصل النفع بها إن شاء الله تعالى ، يقول : (من كانت صفاته في علمه ما تقدم ذكرنا له من أخلاقه – والله أعلم- أن يأمن شره من خالطه ، ويأمل خيره من صاحبه ، لا يؤاخذ بالعثرات ، ولا يُشيع الذنوب عن غيره ، ولا يقطع بالبلاغات ، ولا يُفشي سر من عاداه ، ولم ينتصر منه بغير حق ، ويعفو ويصفح عنه، ذليل للحق ، عزيز عن الباطل ، كاظم للغيظ عمن آذاه ، شديد البغض لمن عصى مولاه ، يُجيب السفيه بالصمت عنه ، والعالم بالقبول منه ، لا مداهن، ولا مشاحن ، ولا مراء،  ولا مختال ، ولا حسود،  ولا حقود، ولا سفيه، ولا جاف ، ولا فظ، ولا غليظ ، ولا طعان ، ولا لعان ، ولا مغتاب ، ولا سباب ، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه ، ونهاه عما يكره مولاه ، ويخالق بالجميل من لا يأمن شره إبقاءً على دينه ، سليم القلب للعباد من الغل والحسد ، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر ، لا يحب زوال النعم عن أحد من العباد ، يداري جهل من عامله برفقه ، إذا تعجب من جهل غيره ذكر أن جهله أكثر فيما بينه وبين ربه عزوجل ، لا يتوقع له بائقة ، ولا يُخاف منه غائلة ، الناس منه في راحة ، ونفسه منه في جهد) [5].

     بهذا الكلام الحلو الذي يقع في النفس موقع القبول ، والذي هو بمثابة الميزان يزن فيه كل عالم في أي عصر كان نفسه ينتقل الآجري إلى ذكر أخلاق أخرى  للعالم ، لكن هذه المرة فيما بينه وبين ربه عزوجل ، علاقة العالم مع ربه هي أعظم علاقة ، وأقوى صلة ، فإذا تحلى العالم في علاقته بربه بالأخلاق الحميدة والآداب الربانية الشريفة تحسنت سائر علاقاته ، وكانت كلها تجري له بتوفيق من مولاه الكريم ، بحيث يصبح ( وارث علم الأنبياء ، وقرة عين الأنبياء ، وطبيب لقلوب أهل الجفاء) ، ومن الصفات التي ذكرها الآجري له: الشكر، والذكر ،والمناجاة ، والاستغناء بالله والافتقار إليه ، ومحاسبة النفس ، ومراجعتها كلما زاد علما ، الفهم عن الله مراده من كتابه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مراده من سنته ، والتأدب بالقرآن والسنة ، عدم منافسة أهل الدنيا في عزهم ، والمشي على الأرض هونا ، بهذا يكون بالله متصلا ، وعما يزاحمه فيه منفصلا ،  وقد عضد الآجري كل هذا بآيات من القرآن الكريم ، وأحاديث مسندة إلى الصحابة والتابعين ، بعضها في تفسير بعض الآيات ، والبعض الآخر- وهو الغالب- عبارة عن وصف لأهل العلم ، وعما يراد منهم ويطلب منهم ، والعالم الورع هو الذي يدرك – بعلمه – أن علمه عليه لا له ، وأنه محاسب عليه يوم يخلو به ربه فيسائله عنه ، وموضوع سؤال الله تعالى لأهل العلم عن علمهم ماذا عملوا فيه هو الذي جعله الآجري في باب مستقل أخرج فيه حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، اختلفت طرقه ومخارجه إليه ، وأوله حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه)[6]، ثم أخرج في الموضوع آثاراً موقوفة على ابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين ، كلها في التذكير بسؤال الله تعالى للعلماء على العلم ، وفي حثهم على العمل بالعلم والإنفاق منه والاتعاظ به.

    ونجد في كتاب (أخلاق العلماء) كتابا آخر مُضمنا فيه ، وهو بعنوان 🙁 أخلاق العالم الجاهل المفتتن بعلمه) ، وأظن أن المؤلف أفرده برأسه لأن موضوعات ما تقدم  هي غير موضوعات هذا الكتاب ، فتلك في فضل العلماء وأوصافهم الكثيرة المحمودة وهذه في أخلاق العالم الجاهل المفتتن بعلمه ، هذا النوع من العلماء لم ينتفع بالعلم لأنه طلبه للفخر والرياء والجدل والمراء ، وساقه إلى غير وجهته ، فهذا الذي وصفه المصنف بأنه (ينسب نفسه على إلى أنه من  العلماء ، وأخلاقه أخلاق أهل الجهل والجفاء ، فتنة لكل مفتون ، لسانه لسان العلماء ، وعمله عمل السفهاء)[7] ، وساق في التدليل على ذلك أحاديث مسندة مرفوعة ، منها ما أخرجه بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم 🙁 من تعلم علما لغير الله ، أوأراد به غير الله ، فليتبوأ مقعده من النار)[8] ، وما أخرجه من حديث جابر-رضي الله عنه- مرفوعا:( لا تتعلموا العلم  لتباهوا به العلماء ، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتجتروا به المجالس ،فمن فعل ذلك النار النار)[9]، ومن حديث كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا:(من طلب العلم ليجاري به العلماء ، ويماري به السفهاء ، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار)[10]، ومن حديث أبي هريرة مرفوعا :(إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه)[11]، وأخرج في الموضوع شواهد كثيرة ، وآثار عديدة كلها في ذم العلماء الجهال الذين افتتنوا بعلمهم ففتنوا غيرهم من العباد ، وفرق الفضيل بن عياض بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ، فعالم الدنيا علمه منشور، وعالم الآخرة علمه مستور ، وأوصى باتباع عالم الآخرة مهتديا في ذلك بقوله تعالى :(إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله)[12]، وروى عن الفضيل قوله :(العلماء كثير والحكماء قليل ، وإنما يراد من العلم الحكمة ، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) [13] ، وعلق الآجري على ذلك مبيناً أن من العلماء قلة قليلة صانت علمها عن الدنيا وطلبت به الآخرة ، وكثير منهم قد افتتنوا بعلومهم ، إلا أن الحكماء  منهم من طلبوه للآخرة ، وأخرج من حديث أبي هريرة مرفوعاً :(من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)[14]، ثم أتبعه بروايات مسندة إلى الصحابة والتابعين كلها تكشف عن عيوب أهل العلم كعدم صيانته وذلك ببذله لغير أهله وفي غير موضعه ، والتعيير به ، وافترض بعد ذلك سؤالا لسائل يطلب منه وصفاً جامعاً للأخلاق المشينة ، والعيوب الممقوتة التي يتصف بها العلماء الذين علمهم حجة عليهم ، وإنما طلب السائل بيانها للإعتبار حتى إذا ظهرت تُجتنب ، لأنها فتنة أصابتهم فلا ينبغي أن تصيب غيرهم ، وهو من النصيحة التي أمر بها الشرع ، فبادر إلى الجواب ، معددا لمجمل الرذائل في عبارة جامعة مانعة تصدى لها فيما بعد بالشرح والبيان،  وكانت طريقة شرحه مستوحاة من نصوص وآثار أوردها لكل خصلة مذمومة ، من هذه الأوصاف ما يلي:

  • أن يتجمّل بالعلم ، ولايُجَمِّلُ العلم بعمله ، يسرع إلى العلم الذي يُشَهّربه بين الناس ، ويكثر منه ليُعرف أنه من أهل العلم ، أما العلم الواجب عليه فيما بينه وبين ربه فيتثاقل في تحصيله ، وهو إليه فقير ، فيكون قد ألزم نفسه السماع للعلم الذي يتباهى به ، ولا يلزم نفسه العمل به ، وهو المطلوب.

  • ينفق العلم للرياء ، ولا يزيد منه إلا للمباهاة والتصنع.

  • يُحاجّ به للمراء ، ولا يتورع أن يقول فيما لا يعلم : لا أعلم ، خوفا إن قال : لا أعلم ، قال له شيطانه إن الناس قد هجروك لأنك لا تعلم ، يقول الآجري في هذه النقطة : ( وهذا طريق أئمة المسلمين من الصحابة ومن بعدهم من أئمة المسلمين ، اتبعوا في ذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم لأنه كان إذا سئل عن الشيء مما لم يتقدم له فيه علم الوحي من الله عز وجل فيقول : لا أدري ، وهكذا يجب على كل من سئل عن شيئ لم يتقدم فيه العلم أن يقول : الله أعلم به ، ولا علم لي به ، ولا يتكلف ما لا يعلمه ، فهو أعذر له عند الله ، وعند ذوي الألباب )[15].

  • يناظر لأجل أن يُعرف بالبلاغة ، وجودة الأسلوب  والفصاحة .

  • غرضه دائما أن يُخطئ غيره سواء أكان مناظرُهُ مصيبا أم مخطئِاً ، إن كان مصيباً ساءه ذلك ، وإن كان مخطئا تباهى بذلك .

  • يسره ما يسر الشيطان، ويكره ما يحب الرحمن.

  • إذا ناظر وأخطأ احتج على خطئه ، فخطؤه صواب ، وصواب غيره خطأ ، يعرف أنه مخطئ ويصر عليه ، يجادل في ذلك ولا يُقر به خوفا من أن يُذّم على خطئه ، وزين له الشيطان أنه إن ذُمّ نزلت مرتبته ، وسقطت هيبته.

  • الفتوى عنده أنواع ، وأحكامها ألوان ، يشدد على البعض ، ويرفق للبعض ، يذم البعض ويحب البعض ، قال علقمة :(أجرأ القوم على الفتيا أدناهم علما) [16].

  • لا يعطي العلم إلا لغرض يصيبه في الحين ، وإذا أعطاه مرة بلا مقابل فذلك غبن حاك في صدره ، و هزيمة نكراء تلقاها في علمه ، وهو هنا لا يلدغ في الجحر مرتين.

  • في دعائه غريب وعجيب ، يطلب من الله التوبة بلا إقلاع ، ويرجو ثواب علم مالم يعمل به.

  • يدفع بمناكبه ليذكر من أهل العلم ، ويشق عليه أن لا يُسأل كما سئل أهل العلم عن المسائل ، وكان أولى به أن يحمد الله إذ لم يُسأل إن كان غيره كفاه ، وإذا بلغه أن أحدا من العلماء أخطأ فرح بخطأ غيره وربما شنّع عليه ، وإن كان غيره قد أصاب في فتواه ساءه ذلك وربما التمس تخطيئه بما يعلم من البضاعة المختلف في حصتها أو قابلة للتأويل.

  • ودد لو أن كل العلماء ماتوا ليبقى وحده ليحتاج الناس لعلمه ، وإن كان في علماء المسلمين من هو أعلم منه نفر الناس منه ، وتحاشى الالتقاء به ، وربما كره حياته وأَلَّب عليه..

  • مغرور ببضاعته المزجاة ، مفتون بحب الدنيا والثناء والشرف والمنزلة ، فالعلم عنده للتجميل ، يتجمل به كما تتجمل الحسناء للدنيا .. وهو في مقابل هذا كله يبدو نقيض نفسه مع الفقراء والمساكين وطلبة العلم ، يتكبر عليهم بأن يحرمهم من العلم ، ويزهد في الجلوس إليهم ، والتحدث معهم … ويظن إن فعل ذلك تلطخ بهم ، ونزلت مرتبته ، وانحدرت سمعته …

وقال الآجري :(من تدبر هذه  الخصال فعرف أن فيه بعض ما ذكرنا وجب عليه أن يستحي من الله ، وأن يسرع للرجوع إلى الحق)[17].

  • أن يكون أكبر همه المعاش وجمع المال ، لا تجده في مكان يعطي فيه العلم إلا وفيه مُقابل ، فهذا قلبه مشغول بالدنيا وبزخرفها لا بالعلم ومعاشرة من يستحقه ـ تجده يحرص، ويتعب ،ويرحل ، وينصب لكن في طلب الدنيا ، وإذا طلب الآخرة فبالتسويف والمنى ، قلبه دائما مضطرب ، ومشتغل بالمال والأولاد والعيال وقد غابت منه الطمأنينة، وذابت منه السكينة .

  • فرح بما آتاه الله من الدنيا ، بل تجده منافسا لغيره فيها ، ناسيا شكر الله تعالى .

  • مغتم بالمصائب ، ولو كانت هينة، فشغلته عن الرضا عن الرب ، دائم الشكوى للعباد أكثر من الله ، ملتجأً في حلها إلى أصحابه المفضلين ، لا يطلب من ربه الفرج إلا إذا أيس من الخلق ، فإن طمع في دنو إلى مخلوق نسي مولاه.

  • يُسرف في كرم الأعيان ، ويبخل عن إطعام الفقراء والمساكين ، ولا يكرم الأولين إلا طمعا في جاه ، أو حبا في سلطة.

  • يكثر في مدح من أسدى إليه القليل وينسى ربه ، ويكثر من ذم من يبغضه.

  • يقطع في الأحكام على الغير بالظنون ، ويُحقق بالتهم ، ويكثر من فضول القول.

  • إذا مرض فهو نادم ذاكر، مظهر للتوبة ، معاهد على ألا يعود ، وإذا شفي انقلب على عقبيه كأن لم يمرض بالأمس.

  • لذته في إطفاء نار غيضه ولو أسخط الرب.

  • دائم في مقارنة نفسه بمن فوقه في النعم فيستثقل نعمة الرب ، ولا يقارن نفسه مع من هو دونه فيشكر الرب.

  • صلاته دائما في مؤخرة عن الوقت ، وإذا قام قام كسولا ، وإن صلى صلى لاهيا ،غير متخشع ولا معظم لمولاه ، وإذا أطال الإمام ذمه ، وإذا خفف اغتنم خفته وحمده .

  • فهذا مصاحبته شؤم، ومجالسته لؤم ، وهو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه) [18]، وفي حديث آخر :(اللهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يُسمع)[19].

خلاصة:

    يجدر بنا في نهاية تقديم محتويات الكتاب أن نسجل ملاحظتين ، الأولى معرفية والثانية منهجية ، ثم  توصية .

  من الناحية المعرفية فالكتاب يقدم ثروة من التوجيهات والنصائح التربوية لصنفين من أهل العلم : صنف المتعلمين ، وهم طلبة العلم ، طالب العلم الذي يطمح في يوم ما ليكون عالما ، فإذا تزود واستقام كان هذا عونا له بأن لا يشتغل في حال كونه عالما بنفسه ، فما أكثر العلماء المشغولين بأنفسهم قبل انشغالهم بأمراض وانحرافات غيرهم ، والصنف الثاني العلماء ، فقد كان المؤلف في هذا الكتاب مربيا للعلماء ، ناقدا لهم ، واعظا إياهم ، وهي أمور لا يقدر عليها إلا العالم المتمكن ، لا يقارع العلماء إلا العالم ، ولا يربيهم إلا من هو مثلهم أو فوقهم ، وقد تفوق في ذلك.

   أما الناحية المنهجية فقد مكنه تمكنه من الفقه والحديث والزهد إلى الدفع بالحديث النبوي الشريف إلى معالجة الظواهر المرضية والنفسية ، وهذه الظواهر هي أمراض نفسية قاتلة لشخصية الإنسان قبل أن تكون قاتلة لعلمه ، ويمكننا باستقراء بسيط أن نحدد أصنافا كثيرة من الأمراض التي تصيب أهل العلم بصفة خاصة ، تتبدى الرؤية المنهجية في معالجته لهذه الظاهرة ب “الحديث الشريف” ، هذا الحديث الذي يخرجه بسنده مرفوعا أو موقوفا ، وهذا يكشف على المهمة العلمية التي يقوم بها الحديث في مختلف مجالات المعرفة والحضارة والمجتمع.

  أما التوصية فانصح بجعل هذا الكتاب مرجعا في كل العلوم ، والحمد لله الذي تتم به الصالحات.

………………………………………………………..

[1]– سورة المائدة الآية 105.

[2] – راجع ترجمته في تاريخ بغداد 243/2 رقم 707.

[3] – أخلاق العلماء ص68 .

[4]– أخلاق العلماء ص87

[5]– أخلاق العلماء ص 88-89.

[6] – أخرجه الآجري من حديث معاذ في ص99، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل ص 18 ، حديث رقم 3.

[7] – أخلاق العلماء ص104.

[8] – أخرجه الآجري في كتابه ص 99 ، والترمذي في الجامع 4/393 وقال : ” هذا حديث حسن غريب …” .

[9] –  أخرجه الآجري من حديث جابر مرفوعا ص 105 ، وانظر المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/86.

[10] –  أخرجه الآجري في كتابه ص 105 ، والترمذي في سننه 4/392. .

 [11]-  أخرجه الآجري في كتابه ص 107.

 [12]– سورة التوبة ، آية 34

 [13]- أخرجه الآجري في كتابه ص 111.

 [14]– أخرجه الآجري في كتابه ص 111، والحاكم في المستدرك 1/85 وقال : ” هذا حديث صحيح ، سنده ثقاة ، رواته على شرط الشيخين ولم يخرجاه “.

[15]– أخلاق العلماء ص 128.

 [16] – المرجع السابق .

[17]– المرجع السابق.

[18] –  أخرجه الآجري من حديث أبي هريرة ص 107 ، وهو ضعيف.

 [19] – أخرجه الآجري في كتابه ص 136-137 ، والحاكم في المستدرك 1/104 ، وقال : ” هذا حديث صحيح ، ولم يخرجاه” .

 

2 تعليقات على “محاضرة في علاقة العلم بالأخلاق من خلال كتاب ” أخلاق العلماء ” للآجري. أ.د. محمد خروبات

  1. جزيت عنا كل خير، أيها الأستاذ الفاضل.

  2. يقول عبد الجليل قراط:

    بارك الله فيكم، ونفعنا بعلمكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *