كلمة جمعية إحياء جامعة ابن يوسف في حق الراحل
الدكتور محمد بنشريفة عضو الجمعية
أعدها الدكتور محمد خروبات
أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بمراكش
وعضو الجمعية
………………………………………
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، وبعد،
السيد رئيس الجلسة المحترم
السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق المحترم
السادة أعضاء اللجنة التنظيمية المحترمين
الجهات المنظمة لهذا الملتقى التأبيني كل جهة بصفتها واسمها
السادة الأساتذة المحاضرين
أيها الجمهور الكريم
كلمتي مركبة من كلمتين : واحدة بالأصالة عن النفس ، والثانية باسم جمعية إحياء جامعة ابن يوسف [1].
اسمحوا لي أن أبدأ كلمتي بشيء من ” الوعظ الأكاديمي” ، وذلك لطبيعة المناسبة والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء ، لقد تأثرت كثيرا بالشريط الذي عُرض علينا والذي يظهر فيه الدكتور الراحل محمد بنشريفة محاضرا ومشاركا ، وعلمتُ أنه كان يعمل لهذه المرحلة ، مرحلة ما بعد الموت ، كان يؤسس لنفسه عمرا آخر يمتد في الزمان مثلما امتد عمر أسلافنا من العلماء السابقين الذين ما زلنا نقتات من ذخائر علومهم ، لقد دخل الدكتوربنشريفة إلى هذا العالم ، عالم “الأموات الأحياء” ، أولئك الذين كانوا يعملون لمثل هذه المرحلة ، لقد قلت في نفسي إننا صائرون إلى ما صار إليه في يوم من الأيام ، وقد بدأت الأيام تتقارب لكن هل سيكون لنا نفس الصيت والذكر المحمود الذي له؟ سؤال يجب أن يطرحه كل واحد منا على نفسه ، لقد عاش أستاذا وباحثا فأصبح اليوم موضوع بحث ، ولو لم يجد الباحثون ضالتهم العلمية في جهوده ما اجتمعوا عليه في هذا اليوم ، نعم اجتمعوا ربما للمرة الثانية أو الثالثة ، وسيجتعون في المستقبل ، وستتوسع دائرة البحث في شخصيته الثانية ، شخصية ما بعد الموت .
لقد سمعت كلاما عن “الأندلسيات” ، وأن الأستاذ الراحل كان متخصصا في الأدب الأندلسي بصفة خاصة ، وفي التراث الأندلسي بصفة عامة ، والواقع أننا لم نعط لهذا التخصص بعده الحقيقي ، المتخصصون في الأندلسيات هم مرابطون على الثغر ، هؤلاء يربطون الأجيال بماضيها لتبقى الأندلس حاضرة في الوجدان مثلما هي حاضرة في التاريخ ، إذا ذهبت الأندلس جغرافيا فلا يجب أن تنسى وتزول من الذاكرة ، وليس هذا فحسب بل إن للرجل مشاركات علمية في الدراسات الإسلامية ، فقد حاضر في موضوعاتها ، وأشرف على رسائل الدكتوراه ، وفحص وناقش عدة رسائل تنتمي إلى الدراسات الإسلامية ، وتعامل مع كتب النوازل الفقهية ، أقول بأن الدكتور محمد بنشريفة لم يكن بعيدا عن البحث في الدراسات الإسلامية.
لم يرتق الدكتور بنشريفة بالبحث وحده بل بالإخلاص في العمل ، وسلامة النية فيه ، مع التواضع والأخلاق العالية ، هذا مع البشاشة والعفة وصون اللسان ، وهذه الشهادات التي قيلت فيه كفيلة ببيان منزلة الرجل ، وقيمته ، وحب الناس له ، ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)[2] .
أما الكلمة الثانية فأسطرها باسم جمعية إحياء جامعة ابن يوسف في حقه ، وهي بالنيابة عن أعضاء جمعية إحياء جامعة ابن يوسف ، وقد حررتها لأسباب ثلاثة:
الأول أن الدكتور محمد بنشريفة عضو من أعضاء الجمعية ، وله مساهمات مادية في دعم المجلة كما تدل عليه لائحة داعمي الجمعية[3] ، وكان صديقا عزيزا لفضيلة الأستاذ إبراهيم الهلالي رئيس الجمعية ، وكان بود الجمعية أن تقوم بتأبين خاص إما على شكل ملتقى علمي ، أو على بياض مجلة إحياء الجامعة ، لكن كل ذلك تعذر فعله بسبب وفاة الأستاذ إبراهيم الهلالي[4] ، وتوقف المجلة ، وعدم تجديد مكتب الجمعية إلى حدود كتابة هذه السطور ، ولو كان حيا لأبَّنه لأنني أعلم مكانة الدكتور محمد بنشريفة عند الأستاذ الهلالي رحمهما الله تعالى كما سيأتي بيانه .
الثاني أن للدكتور بنشريفة مساهمات علمية طيبة في أنشطة الجمعية ، وهو الموضوع الذي سأرجع للكلام عليه في هذه الكلمة.
الثالث معرفتي به يوم كنت طالبا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في سنوات الإجازة وسلك تكوين المكونين الممتد من سنة 1980م إلى سنة 1987م يوم كان أستاذا في شعبة اللغة العربية ، وهو المعروف بالتخصص في الدراسات الأندلسية ، ثم تعرفنا عليه من جهة حرمه أستاذتنا الدكتور عصمت دندش التي قدمت خدمات جُلى لشعبة الدراسات الإسلامية يومئذ ، وكانت تدرس فيها مادة ” تاريخ الإسلام ” ، وأقدم لها بهذا السبب خالص المواساة والتعازي سائلا الله تعالى أن يرحمه ، ويتقبله في الصالحين .
شارك الأستاذ بنشريفة في الندوة العلمية الأولى التي نظمتها الجمعية تكريما لعلماء وطلبة جامعة ابن يوسف ، وقد تعاونتْ في هذا التنظيم مع المندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير ، وكانت في موضوع ” الفكر الوطني والمقاومة بالمغرب عبر جامعة ابن يوسف انطلاقا من سنة 1937 إلى سنة 1955 ” ، نُظمتْ بمؤسسة البشير للتعليم الخصوصي بتاريخ 27 شتنبر 2003م ، كان موضوع مداخلته رحمه الله بعنوان ” الفكر الوطني في مراكش وآسفي ” ، وبصفتي مقررا للجلسة فقد قدمت للجنة المنظمة ملخصا عن هذه المحاضرة أنقله هنا كما قدمته :
افتتح الدكتور محمد بنشريفة الجلسة الصباحية بعرض بعنوان: ( الفكر الوطني في مراكش وآسفي) بدل العرض المعلن على عنوانه في برنامج الندوة وهو ” تاريخ الحركة الوطنية من سنة 1930م إلى سنة 1956م”، وقد لبَّى الدعوة رغم مشاكله ومشاغله شادا الرحلة إلى مدينة مراكش ، مُحددا أسباب الاستجابة فيما يلي :
1 ـ أهمية الموضوع .
2 ـ ديْن جامعة ابن يوسف عليه كطالب درس فيها ، مع معاشرة طويلة لعلمائها وطلبتها
3 ـ ما يكنه من اعتزاز وحب وتقدير للأستاذ إبراهيم الهلالي ، أنموذج المثالية والوطنية الحقة ، وأثنى على كلمته التي ألقاها في جلسة الافتتاح ، وتحسر على ما وقع لجامعة ابن يوسف من إهمال وتهميش .
أشار الأستاذ إلى عدة نقط مهمة في عرضه ، نسوقها كالآتي:
1 ـ تاريخ الحركة الوطنية كتب فيه الكثير، كتب فيه الأستاذ علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني وأبو بكر القادري وعبد الكريم غلاب ، تأليفات فيها جهد كبير وفي أجزاء…
2 ـ أقامت أكاديمية المملكة المغربية ندوة كبيرة عن ثورة الملك والشعب ، شارك فيها عدد كبير من الباحثين المهتمين منهم الدكتورمحمد بنشريفة والدكتور مصطفى الكثيري.
3 ـ تاريخ الحركة الوطنية لم يُكتب بشكل شامل وجامع ، مازال شتات وشذرات تؤخذ من هنا وهناك ، لابد من استحضار ما كتبه المقاومون من خارج الوطن ، ثم البحث عن المختفي أيضا عند جنود مجهولين ، لا يجب أن ننسى قضايا وأحداث كثيرة غير مدونة ، يطالب الأستاذ بتدوينها في مختلف مظاهرها.
4 ـ يجب أن نخرج من الكتابة العاطفية إلى الكتابة التحليلية النقدية ، وهذه النقطة المنهجية مهمة ، ووصية للباحثين في تاريخ الحركة الوطنية .
5 ـ وبحكم انتمائه إلى مدينة آسفي قدم الأستاذ نظرة عن الحركة الوطنية في هذه المدينة ، كيف يفسر الدكتور بنشريفة أن والده أبى أن يدخله إلى المدرسة الفرنسية ووجهه إلى حفظ القرآن الكريم حتى حفظه ، ثم وجهه إلى ابن يوسف، ليس لهذا إلا تفسير واحد هو الوعي الحقيقي بمقومات الهوية المغربية .
6 ـ من مظاهر الهوية الوطنية التي تكلم عليها في إطار حديثه عن الحركة الوطنية في مدينة آسفي رجال أبلوا البلاء الحسن ضد الاستعمار، من هؤلاء الفقيه الكانوني ، رجل عاش في آسفي ، وعاش يتنقل من مدينة إلى أخرى، وطني ومجاهد ، صامد ، سُجن ، ونُفي ، وضاعت مكتبته ، استقر به المقام أخيرا في البيضاء.
7 ـ الحركة الوطنية نشأت من خلال تأسيس جمعيات صغيرة ، منها جمعية كانت في فاس وأخرى في سلا والرباط ، وكانت هناك جماعة في آسفي يطلق عليها جماعة آسفي ، محركها هو سيدي محمد الباعمراني ، ولد سنة 1907، وهذا الرجل هو أول من بث فكرة الحركة الوطنية في آسفي ، ثم آزره أعلام آخرون من أمثال: الكانوني وغيره.
بدأت هذه الحركة نشاطها بالمدارس الحرة ، من ذلك المدرسة الحرة التي كان يقوم عليها مولاي الحاج ، ثم مدارس تطورت عن كتاتيب قرآنية مثل مدرسة الفقيه الهسكوري ، هذه المدرسة التي عُرفت فيما بعد بمدرسة الهداية.
8 ـ لم يخف الأستاذ بنشريفة تأثره بوجوه مقاومة بارزة ، من هذه الوجوه التي ذكرها الفقيه سيدي ادريس بناصر، والأستاذ مولاي الخضر، وهذا الأخير كان من الموقعين على عريضة الاستقلال ، كان له عمل متكتم، يعمل في السر.
9 ـ تقوت حركة المقاومة في آسفي منذ سنة 1927 م، وتقوت بعدها جاعلة من آسفي قلعة للنضال المستمر والمتجدد.
10 ـ لم يخف الأستاذ مجالسته لأساتذة مقاومين أجلاء ، دعا لهم جميعا بالرحمة ، وفي طليعتهم شيخ الجماعة الفقيه بلحسن ، مثال العلماء المجاهدين الورعين المتطوعين، كان يتطوع بالدروس من وقت صلاة الصبح إلى صلاة العشاء، ومنهم الفقيه الرحالي الفاروقي رمز شامخ ، هذا الرجل الذي رفع رأس جامعة ابن يوسف ، وكذلك الفقيه الزهراوي، هذان العلمان أظهرا قيمة الجامعة اليوسفية .
11 ـ وختم عرضه مبينا أن لعلماء مراكش دَيْن عليه وعلى طبقته، ودعا لهم بالرحمة والمغفرة.
خلاصة : إنها ذكريات بثها الأستاذ محمد بنشريفة من مخزون الذاكرة ، ذكريات موزعة بين قلعتين مقاومتين : آسفي ومراكش، كلمة مرتجلة لكنها دسمة ، تحمل في طياتها معلومات تاريخية وتجربة ذاتية قيمة.
وبين يدينا في صدر افتتاحية العدد المزدوج 14-15 من سنة 2014 م مراسلة وجهها الدكتور محمد بنشريفة إلى الأستاذ الهلالي بصفته مدير التحرير ، ولعلها جواب على دعوة للمساهمة بمقال للنشر في هذا العدد الثاني ، كتب إليه يقول :
السلام عليكم ورحمة الله
أيها الأخ العزيز، والصديق الحبيب ، الأستاذ الجليل سيدي ابراهيم الهلالي ، عميد العلماء اليوسفيين ، ومفخرة جيلنا ، والبقية المباركة منه ، والقدوة الحسنة فيه ، علما وعملا ، وخلقا وفضلا ، ووطنية وجهادا ، وكتابة وشعرا ، ومشاركة وحضورا.
متعك الله وإياي بالصحة والعافية ، وبارك في أعمالك وجهودك ، نشاطك الجم ، ودفاعك المثاب على جامعة ابن يوسف ، وحميتك من أجل إحيائها وبقائها ، وعملك على تخليد رموزها .. فبارك الله فيك ، وهنيئا لنا بأمثالك .
وإني لعاجز عن شكرك ، على جميع ما أهديت وأسديت .
وأرجو أن تتقبل مني الأشياء المتواضعة الموجهة إليك ، وفيها نص مداخلة علمية طلبت مني بمناسبة معرض الكتاب العربي الأخير فلعلها تصلح للنشر في مجلة جامعة ابن يوسف .
والسلام عليكم ورحمة الله
د. محمد بنشريفة
وكتب في يوم الجمعة 29 يونيو 2012
لا أعلق على الرسالة ، فمضمونها يفوح بطبيعة علاقة التقدير والمودة بين الرجلين ، وبعد هذه المراسلة تصدر مقال الدكتور بنشريفة سلم الأولوية في ترتيب المقالات ، وكان بعنوان ( التماثل بين الأدب المغربي والأدب الأندلسي) ، وهو مقال موثق من مصادره ومراجعه ، ويقع في 13 صفحة [5]، ولن أطيل الكلام في تقديم المقال لكونه مطبوعا ومنشورا في مجلة جامعة ابن يوسف.
وفي الختام ، فهذه كلمة عن الأستاذ الراحل الدكتور محمد بنشريفة ، تتضمن بعضا من جهوده في جمعية إحياء جامعة ابن يوسف ، نسأل الله تعالى أن يتقبل منه صالح الأعمال ، وعزاؤنا مجددا لحرمه الدكتورة عصمت دندش ، ولكافة أفراد أسرته وذويه ، ولطلبته ومحبيه ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
………………………………………………………………..