الفقه والأصول ومقاصد الشريعة, فقه وأصول

كلمة الإشراف على رسالة دكتوراه ( جهود علماء الصحراء المغربية في خدمة المذهب المالكي خلال عهد الدولة العلوية) للباحث محمد سالم اسعير .أ.د. محمد خروبات

كلمة الإشراف على رسالة دكتوراه ( جهود علماء الصحراء المغربية في خدمة المذهب المالكي خلال عهد الدولة العلوية) للباحث محمد سالم أسعير. أ.د. محمد خروبات نوقشت الرسالة بتاريخ 16/7/2020م بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة القاضي عياض بمراكش .

………………………………………………………………….

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد ،

وبعد:

السيد رئيس الجلسة الدكتور إبراهيم رضا المحترم  .

الأستاذ الدكتور محمد السطيري الذي حج إلينا من كلية الحقوق بالمحمدية ، وهو ضيف الكلية المميز.

الأستاذ الدكتور أحمد البوكيلي الذي تعذر عليه الحضور لظروف قاهرة، وقد اكتفينا بتقريره  في فحص الرسالة مشكورا.

الأستاذ الدكتور أحمد امحرزي علوي ، أستاذ الفقه الإسلامي بهذه الكلية العامرة.

 يسعدني بصفتي مشرفا على هذا العمل أن أتقدم بين أيديكم بتقرير مقتضب عن هذه الرسالة التي واكبت الإشراف عليها منذ أن سُجلت إلى وقت مناقشتها  .

 الرسالة التي هي أمامكم موضوعها : ( جهود علماء الصحراء المغربية في خدمة المذهب المالكي خلال عهد الدولة العلوية ) ، وهو من إنجاز الطالب الباحث محمد سالم أسعير ، والباحث ليس طالبا للعلم فحسب بل هو أستاذ للتعليم الثانوي ، له تجربة في التدريس والتعليم ممزوجة بمعاناة البحث العلمي ، وهو ابن الصحراء ، وأحد أفلاذ أكبادها ، العارف بأعلامها وأعيانها ، والمخالط لمجتمعها ، أبى إلا أن يقدم خدمة لها ولوطنه من خلالها انطلاقا من تخصصه ، وهي بادرة طيبة وجهد مشكور حين يُساهم كل طالب باحث بتخصصه في خوض غمار الموضوعات العلمية التي تقتضي معالجة علمية أكاديمية ، ثم إن هذه الرسالة تقدم جوابا كافيا عن أسئلة أولئك الذين يتساءلون من داخل التخصص ومن خارجه : كيف نساهم بالدراسات الإسلامية في خدمة القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والحضارية ، هذه الرسالة أنموذجا لذلك ، ولعلنا في مستقبل الأيام القريبة نكشف عن المزيد من مثل هذه المشاريع العلمية النافعة والرائدة ، مشاريع تفتح آفاق البحث للباحثين .

 أيها السادة أعضاء اللجنة الموقرة:

 لقد رام هذا البحث بيان الجهود التي قام بها علماء الصحراء المغربية في خدمة المذهب المالكي، وذلك خلال عهد الدولة العلوية ، وقد تم ذلك بفعل العلاقات والروابط التي جمعت سكان الصحراء   بكافة أرجاء المغرب في شماله وشرقه ووسطه ، ولم ينس الباحث  أن يشير إلى الخصائص والمميزات التي تميز   بها المذهب المالكي دون غيره من المذاهب الفقهية المعتبرة ، فإلى هذه المميزات والخصائص يُعزى انتشار المذهب المالكي واشتهاره ، وبفضل المحافظة والخدمة برز أعلام من الصحراء المغربية سجلوا أسماءهم في قائمة علماء المذهب المالكي وخُدامه ، عَيَّنهم الباحث بأسمائهم ، وترجم لهم واحدا واحدا.

 ولم يكن الدافع لفعل ذلك غير كون المذهب المالكي ثابتا من ثوابت المملكة المغربية عبر التاريخ حتى غدا مقوما روحيا ،وأصلا أصيلا ، ويدخل ضمن ذلك العلاقات والروابط التي تجمع بين المغرب وصحرائه ، وليس من باب الصدفة أن يولي سلاطين المغرب من ملوك الدولة العلوية اهتماما كبيرا للنواحي الفقهية والروحية في ربوع الصحراء المغربية ، هذه النواحي التي لا تُستثنى منها التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، ولم يأل الباحث جُهدا في كشف النقاب عن هذا الموضوع الذي نعتبره لبنة من لبنات الدفع بالبحث العلمي نحو التراث الفقهي الصحراوي ، وهو تراث يستحق العناية لنوعيته كما سيتضح.

 لقد اختار أهل المغرب الأقصى مذهب الإمام مالك بن أنس ، ومالك هو إمام دار الهجرة ، وبين المدينة والمغرب الأقصى بُعدٌ هو ما بين المشرق والمغرب ، عانق المغاربة هذا المذهب على بعد المسافة الجغرافية ، وهل تقف المسافة حائلا بين الإنسان المغربي ومعتقده وتشريعه ؟ لقد اقتنع المغاربة بالمذهب وبلادهم ليست خلوا من المذاهب ، ولم ينتشر المذهب بسبب استغلاله للفراغ بل كان وراء انتشاره اقتناع المغاربة به ، وهو اقتناعُ اعتقادٍ ، لقد آثروا ما هو أحوط وأضبط وأصلح لهم ولمجتمعهم ، وسبب هذا الاقتناع هو مرجعية المذهب المالكي في انطلاقه من الكتاب وصحيح السنة ، ثم سلوك وأخلاق الإمام مالك رضي الله عنه، وهي أخلاق سافرت عبر الأقطار والأزمان ، يرويها جيل بعد جيل ،يصف  القاضي عياض حالة الانتشار في ترتيب المدارك  فيقول: ( غلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر، وما ولاهما من بلاد إفريقية والأندلس والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا) [1]، وقوله ” غلب” تعني ما تعني ، ولم يبق المذهب المالكي كما هو في الحجاز بل دخل إلى ميدان العلوم والمعارف ، ونتيجة الخدمة والعمل ظهرت فيه مدارس عدة كانت مدرسة الغرب الإسلامي واحدة منها، ويرجع الفضل في تكوين هذه المدرسة إلى ساسة وأعلام أجلاء تركوا بصماتهم الحية في الفقه المالكي نذكر منهم المولى ادريس الذي حمل المغاربة على قراءة موطأ مالك بن أنس وتعلمه وتعليمه بعد أن أدخله القاضي عامر بن محمد القيسي إلى المغرب في عهده ، ونهض به جِلة من العلماء نذكر منهم عبد الملك بن حبيب وأبوبكر بن العربي وابن رشد الجد والقاضي عياض وابن عبد البر وغيرهم ، وتأسست لذلك مؤسسات عُرفت بعراقتها وشهرتها مثل جامعة ابن يوسف وجامعة القرويين ودارالحديث الحسنية والمجالس العلمية المحلية والمساجد والزوايا مثل زاوية تامكروت ، والبيوتات والمعاهد والمراكز والمدارس العتيقة ، وغيرها من المؤسسات والمعاهد التي قدمت خدمات جليلة للمذهب المالكي ، وإذا كان الكلام عن المذهب  في الأندلس والجهات المتاخمة لشبه الجزيرة الإيبيرية مثل سواحل المغرب الشرقية والجنوبية فإن الكلام عن المذهب المالكي في الصحراء ذو أهمية بالغة ، فقد كان لعلماء الصحراء في شنقيط وبلاد البيضان وغيرها دور كبير في ذلك .

 أيها الأفاضل أعضاء اللجنة الموقرين :

 اسمحوا لي أن أقدم بعض المرتكزات الأساسية لهذا الموضوع :

المرتكزالأول : البيئة الصحراوية وخصائص المذهب .

   من حيث البيئة فالمذهب المالكي يتفاعل مع الصحراء لأنها مكان ظهوره ، وبيئة منشئه ،فهو ينتعش مع الصحراء ومع البداوة ، وهي قضية أشار إليها عبد الرحمن ابن خلدون في المقدمة بقوله : ( فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ،ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة ، ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضا عندهم ، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب)[2] ، ومن حيث الخصائص فمعلوم أن للمذهب خصائص منهجية تميزه ، منها : الاستدلال بالمصادر المتفق عليها، والأدلة والمصادر العقلية المختلف فيها مثل المصالح المرسلة والأعراف والعادات وغير ذلك ،وعمل أهل المدينة ، واستخدام القواعد الفقهية ومراعاة مقاصد الشريعة ، والمزاوجة بين التقليد والاجتهاد .

المرتكز الثاني: صاحب المذهب هو الإمام مالك رضي الله عنه، ينتهي نسبه إلى يعرب بن يشجب بن قحطان، فهو يتقاطع مع النبي صلى الله عليه وسلم في نسبته إلى أجداده، يصفه القاضي عياض فيقول: (و ها نحن نبين أن مالكاً رحمه الله تعالى هو ذلك لجمعه أدوات الإمامة وتحصيله درجة الاجتهاد وكونه أعلم القوم بأهل زمانه وأطبق أهل وقته على شهادتهم له بذلك وتقديمه، وهو القدوة والناس إذ ذاك ناس والزمان زمان، ثم للأثر الوارد في عالم المدينة التي هي داره وانطلاق هذا الوصف ولإضافته على ألسنة الجماهير، وموافقة أحواله الحال التي أخبر في الحديث عنه وتأويل السلف الصالح أنه المراد به )[3] .

المرتكز الثالث: الدولة العلوية التي انطلقت من الصحراء، وكان لسلاطين هذه الدولة رابطة البيعة الشرعية ، زد على هذا نسبهم الشريف إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوقف الباحث عند ما سماه ” مظاهر التواصل السياسي” ، ومنها بيعة القبائل الصحراوية لملوك الدولة العلوية قبل الاستعمار وأثناء الاستعمار وبعده، وقد عزز بحثه بمجموعة من الرسائل والوثائق السياسية .

المرتكز الرابع: الرحلات وانفتاح المغرب على المشرق ، دخول المشارقة إلى المغرب ، ورحلات المغاربة إلى المشرق ، ولنا مزيد من التعليق على هذا المرتكز فيما سيأتي من كلام إن شاء الله.

المرتكز الخامس: صاحب البحث الذي ينحدر من أصول صحراوية، فهو أعلم بأهل بلده من غيره ، وقد أهله لذلك تخصصه في الدراسات الإسلامية التي نهل من علومها ومعارفها ، والدراسات بهذه الكيفية قليلة ، والموجود منها لا يكفي أمام هول التحديات الاستعمارية والتحرشات الانفصالية والتربصات الإقليمية والدولية ، وقد دأبت هذه الجهات على استصدار وابل من الثقافات والأفكار المضللة .

    لم يأل الباحث الصحراوي محمد سالم جهدا في متابعة التفاصيل العلمية للموضوع ، لقد أخلص لموضوعه فأثمر بهذا العمل الموجود بين أيديكم ، موضوع اختلط فيه الفقهي بالوطني ، والأصولي بالصوفي والسياسي، هذا الخليط هو خليط غير مفتعل بل تجسده طبيعة الثقافة الصحراوية التي أنتجها السادة علماء الصحراء ، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا منزوين في حلقات الدرس الصوفي أو الفقهي بل كانت أعينهم مفتوحة على ما يجري ويقع .

  إن مما يميز هذه الدراسة الاهتمام بأعلام المذهب في الصحراء ، وهم جيل من العلماء نذروا أنفسهم للعلم والمعرفة الفقهية المالكية ، يتبدى أثرهم في المؤلفات الفقهية والأصولية الكثيرة التي تركتها أسر عالمة بالمنطقة مثل مؤلفات علماء وادنون ، وأسرة الشيخ ماء العينين ، وآل المجلسي وآل عبد الحي وغيرهم، وفي هؤلاء من زاول القضاء والفتوى والتدريس والاشتغال بالعدالة ، وبرز من العلماء محمد المامي الباركي الزاهد الصوفي والفقيه العالم ، ومحمد بن محمد سالم المجلسي ، وقد تكلم عن زهده وعلمه وطريقته ، وكتابه ” منح العلي في شرح الأخضري”، والعلامة الشيخ ماء العينين الزاهد الصوفي العالم وكتابه ” دليل الرفاق في شمس الآفاق” ، يصور الباحث ذلك في عبارة جامعة فيقول: ( ولذا، لا يكاد يخلو اليوم مكان من أمكنة الصحراء من وجود ضريح أو زاوية ، أو أثر لشيخ من شيوخ المنطقة وأعلامها ، كما لا تخلو مدينة من مدن الجنوب من مكتبات عامرة وزاخرة بالكتب والمخطوطات التي تركها أعلام الأسر العلمية الصحراوية وتلامذتهم)[4] .

      وما هو ثمين في هذا العمل كلام الباحث عن المخطوطات الصحراوية بحيث توجد خزائن للمخطوطات الصحراوية تحت رعاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،  وما يميز البحث هو الكلام عن “الرحلة الصحراوية” للحجاز، ولم يكن الكلام عن الرحلات الصحراوية ومعطياتها الفقهية والروحية والمنطقة بصفة عامة معزول عن سياق التعامل العلمي والأداء المنهجي مثل مجالس العلم وطرق التحمل بالإجازات والأسانيد والمراسلات وأماكن التدريس والمقررات الدراسية ،  وهو موضوع جدير بأن يفرد برأسه في سياق الأبحاث الفقهية والحديثية ، وكلامه عن ” الزوايا والطرق الصوفية” ، وتاريخ التصوف بالصحراء المغربية، فقد تكلم عن الزوايا بأسمائها وأعيانها وتاريخها ومقوماتها ، وتكلم عن مراكش والجامعة اليوسفية لكنه أهمل تاريخ اليوسفية واليوسفيين المنحدرين من الصحراء ، هؤلاء الذين انخرطوا في مكافحة الاستعمار وتكوين الإنسان الصحراوي ، كما ساهموا في بث اليقظة الوطنية في نفوس المغاربة ، وقد كان لهم أثر كبير في إفريقيا لأن المذهب انتشر في إفريقيا عبر الصحراء المغربية .

 من شأن الدراسة أن تربط الباحثين بتراثهم، ومن شأنها أن تعزز الروابط الدينية والثقافية والسياسية بين أبناء الوطن الواحد ، كما من شأنها أن تضمن صيانة الوحدة الترابية ، فللمذهب المالكي دور كبير في المحافظة على الاستقرار الاجتماعي والثقافي والسياسي ، يحكي الدكتور عباس الجيراري فيقول: ( حين عرض موضوع الوحدة الترابية على محكمة لاهاي الدولية في صيف 1975م كان السؤال الذي طرحه القاضي في المحكمة : هل بين المغرب في الشمال وأهل الصحراء قرابة مذهبية ؟، وبمجرد أن عرف أن المذهب ” المالكي” كان يجمع بين هؤلاء وأولئك حسم في القضية ، أي أن الوحدة قائمة ، والوحدة ثابتة ، لأن المسائل الفكرية والمسائل المذهبية هي أكثر من غيرها شدا للمجتمعات والشعوب)[5] .

  أيها السادة الأفاضل:

  لا يفوتني في نهاية هذه الكلمة أن أنبه إلى الخلاصات العلمية التي انتهى إليها الباحث ، وهي عبارة عن توصيات جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار ، لكن ” لكل شيء إذا ما تم نقصان ” كما يقول الشاعر، فإن هذا البحث وُضع بين أيديكم لتقويمه وبيان ما يجب على الطالب الباحث القيام به ، ولا شك أنكم بذلتم جهدا في قراءته وتسجيل ملاحظات عليه أدعو الطالب أن يُصغي إليها جيدا ، ويسجل ما يجب تسجيله إذا أراد أن يرقى ببحثه إلى المستوى المطلوب ، بارك الله فيكم ، وتقبل الله منكم ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

نشر على الموقع بتاريخ 18/7/2020م

…………………………………………………………………

– [1]- ترتيب المدارك 1/60.تحقيق الدكتور علي عمر ، طبعة القاهرة ، 2009م.

– [2]- مقدمة ابن خلدون ص 449 ، طبعة دار القلم ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الرابعة 1981م.

– [3]- ترتيب الدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض 1/17

-[4] – ص 31  من الرسالة .

– [5]- أسباب انتشار المذهب المالكي بالمغرب للدكتور عباس الجراري ، أعمال ندوة ” المدرسة المالكية الفاسية” ص 50-51.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *