في فقه صيانة الأمن العقدي بين المقومات والتحديات [1]
إنجاز د. محمد خروبات
أستاذ التعليم العالي – جامعة القاضي عياض –
شعبة الدراسات الإسلامية – مراكش.
بسم الله الرحمن الرحيم
1- تساؤلات بين يدي الموضوع:
موضوع ” الأمن ” من الموضوعات الجديدة في الثقافة الإسلامية ، ويجب التفريق بين الكلام عن الموضوع ووجوده ، فالأمن موجود ، والكلام عليه بهذا النفس الواسع شبه مفقود ، هل هو استدراك من الخلف على السلف ؟ أم أن الواقع تغير فتغيرت الأفكار بالتبع ؟ ماهو الأمن وما معناه ؟ هل هو نوع واحد أم هو أنواع وأصناف ؟ إذا كانت للأمن أنواع كثيرة فما صلة ” الأمن العقدي ” بالأنواع الأخرى ؟ هل ننساق في الكلام عليه مع التنظير الغربي الحديث الذي يعطي لمصطلح الأمن مفهوما غريبا ومدهشا أم ننحت المفهوم من الخصوصية الإسلامية ؟ لماذا نثير الموضوع بهذه الكيفية ؟ وما هي الدوافع لذلك؟ هل نحن اليوم في أمن وأمان بديننا وعقيدتنا أم أننا مهددون في التاريخ والجغرافيا والدين والهوية والنفس ؟ إذا كان الجواب بالإيجاب ماهي التحديات والأخطار التي تقف في طريق الأمن الذي جاء به الإسلام للبشرية؟
تساؤلات كثيرة نقدمها بين يدي الموضوع نحاول الإجابة عليها في بحث موجز جعلنا من موضوع “في فقه صيانة الأمن العقدي بين المقومات والتحديات ” عنوانا له .
2- في منهج الكلام :
هناك ملاحظات منهجية لابد من التنبيه عليها :
- الموضوع الذي نحن بصدده ليس موضوعا أدبيا أو تاريخيا أو فلسفيا بل هو موضوع ينفرد بخصائص تجعله موضوعا متميزا ، لذلك فهو يتطلب منا اللغة اللائقة والأسلوب المتميز والأفكار الهادفة والمركزة ، ثم إنه يتطلب أمرا آخر هو التقدير والاعتبار ، موضوع لا يجب النظر إليه من أعلى إلى أسفل ، بل من أسفل إلى أعلى ، لأنه موضوع شريف في بابه.
قلنا هذا الكلام ونحن نعلم الكيفية التي تعالج بها الموضوعات اليوم ، منا من يعالج الموضوع بطريقة باردة جدا ، أصاب فيه أو أخطأ لا يهم ، وهنا لا تستطيع أن تميز بين معالجة مستشرق لمثل هذا الموضوع ومعالجة باحث مسلم ، كلاهما على نمط واحد من الفهم والمعرفة ، لا نلوم المستشرق ربما تلك هي خاصيته ، ولكن نلوم الباحث المسلم لأن الموضوع عنده لا يحظى بالتقدير اللازم.
لقد عقدت ندوات كثيرة ومؤتمرات عديدة كانت موفقة في معالجة موضوعات علمية واقعية، وقد أطرتها عقول إسلامية راشدة لكنها لم تستثمر كما يجب ، ولم يستفد المجتمع منها ، وجل التوصيات التي تسجل لا يرجع إليها ولا تخضع للتنفيذ من قبل الدوائر الساهرة على التطبيق والتنفيذ مما يعطي انطباعا على أن اللقاء هو شكلي واستعراضي.
- تبعا لما تقدم فالموضوع لا يتطلب منا إعطاء الجديد أو توليد شيء غير موجود ، ومن ظن ذلك وسعى إليه فهو مخطئ ، فالموضوع يتطلب منا الإقرار بحقيقة وجدت في التاريخ والأصول ، حقيقة بدأت تُنسى وتُطوى أو أُريد لها أن تكون كذلك ، الموضوع الذي نحن بصدده هو ” أصل الوجود” في الأزل ، و”أصل الوجود” في الواقع .
- بخصوص الحقيقة الأولى فالأمن أصل الوجود في الأزل ، وهو يتبدى في عملية الخلق ، دليل ذلك أن الله خلق آدم بيده ،ونفخ فيه من روحه ، فكانت صورة الخلق على أحسن تقويم ، لا تنافر بين أعضائه ، هناك تكامل تام وانسجام مطلق بين أعضاء جسده ، وهذا ضرب من الأمن في عملية الخلق ، ثم نفخ فيه من روحه ، فحصل الانسجام بين الروح والجسد ، ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم ،ثم خلق من ضلعه زوجه لتحصل المحبة والأُنس بينه وبين زوجه ، ثم عينه في الجنة ومكنه منها ، ولما عصى أمر ربه غوى ، لكنه تاب إلى ربه وأناب فاجتباه ربه وتاب عليه ، ولم يلحق به غضبه وسخطه ، هذه كلها مظهر من مظاهر نعمة الأمن على آدم وهو في الأزل.
كانت النتيجة هي النزول إلى الأرض ،الأرض التي جعلها الله في مأمن من كوارث الفضاء العظمى، ولضمان الحياة شاءت قرته عز وجل أن يخلق آدم من تراب هذه الأرض حصل التوافق بينه وبين محيطها ، ولما ارتكب المعصية – بسبب غواية إبليس- تاب عليه وغفر له ، ثم عينه في الأرض بعد أن مكنه فيها ، وجعله هو الخليفة والمسئول ، وهو المعمر والعابد ، ثم جاءت الرسل تترى من ولد آدم عليه السلام لبني آدم كلهم ،كان آخرهم هو محمد عليه الصلاة والسلام ، وأنزلت الأحكام الشرعية لتؤمن الإنسان على عقله وماله ونفسه ودينه ونسله ، وتعددت مظاهر الأمن في الإسلام ، وتنوعت أشكاله ، فقد أمن الإسلام روح الإنسان ، وأمن زمانه ومكانه ، وأمن حياته ورزقه ، كما أمنه في آخرته إن هو امتثل لأحكام ربه ، فكان هذا النوع من الأمن وعدا من الله لعباده ، والله لا يخلف وعده ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعبدونني لا يشركون بي شيئا)[2]. تلك هي الحقيقة لأولى.
- بخصوص الحقيقة الثانية فالأمن هو أصل الوجود في الواقع ، فقد جعل الله مكة أحب أرض الله إلى الله ، ودعى لها إبراهيم فقال : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ) [3] ، فكان الأمن هنا أمنا شاملا ييشمل الإنسان والزمان والمكان وحتى الحيوان ، لقوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا) [4] ، ولقوله: ( تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا) [5]، وليس ذلك للكافرين والمعتدين لقوله تعالى : ( قال ومن كفر فأـمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار )[6] ، وأمنها نبيه صلى الله عليه وسلم في خطبة الفتح فحرم سفك الدم فيها وحل غنائمها وقطع أشجارها وشوكها وتنفير صيدها ، كل ذلك حرام على التأبيد [7] .
إن توفير الأمن وفق المعطيات السابقة هو من الجعل الإلهي لا من الفعل البشري ، فالقبلة هي أمان الإنسان المسلم في الحياة وبعد الممات ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن مكة بلد حرام ، حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، حرمها يوم خلق السماوات والأرض…) [8]، وقدم دليل ذلك في حمايتها من أصحاب الفيل . وقد دل هذا كله على أن الأمن هو الأصل ، ولما كان كذلك توجب أن يكون عقيدة .
3- طرح الإشكال العام للموضوع:
في وقت اضطربت فيه المفاهيم ، وتبلبلت الأفكار ، وعمت الفوضى ، وانعدم الأمن ، يصبح من اللازم على المفكرين الإسلاميين الجدد أن يعيدوا إثارة البديهيات ، وتوضيح البينات ، لأن ما كان بالأمس واضحا بينا أصبح اليوم ضبابيا ، وما كان معلوما ومعروفا أصبح اليوم منسيا ومهجورا.
إن أقوى ما يجب التوقف عنده التماس حسنات الإسلام في غيره ، والسعي نحو امتلاك إيجابيات العقيدة في ضدها ، لقد نجح الغرب في تحويل المنافع والمصالح التي جاء بها الإسلام لتأمين حياة البشرية إليه ، أبقاها على جوهرها مضفيا عليها حلة مزيفة من بريق أفكاره ، وصدر إلى العالم الإسلامي سلبيات حضارته ، وبراثين فكره وثقافته ، وأقوى تأثير هو نعته للإسلام بالرجعية والتخلف ، ووصفه للشريعة بالتزمت ، ورميه للعقيدة بأنها عقيدة الغلو والتطرف ، وساد في الاعتقاد أن الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة يعني الإرهاب ، هكذا تنقلب الأمور إلى ضدها ، الإسلام الذي هو دين الأمن والأمان ، ودين السلم والسلام ، ودين الطمأنينة والسكينة تسحب منه هذه الخاصيات ليتحول إلى بركان بارود مخيف قابل للانفجار في أية لحظة .
لم تقف القضية عند هذا الحد بل عمد الغرب إلى تشويه صورة الأمن حين ربطها به ، وبدولته ومؤسساته ، فانعدم الأمن في العالم الإسلامي ، وعم الخوف ، فأخاف وخوف ، وفزع وأفزع ، ونجحت العقيدة الإبليسية في زرع الخوف في أرجاء الأرض ، لا يخلو مكان من عقيدة الدمار الشامل ، ومن قواعد عسكرية ترهب بشكلها ونظامها ، كما لا يخلو مجال من التربص والتجسس ، وتطلع علينا وسائل الإعلام بصور مفزعة لحوادث القتل الجماعي ، والاغتيالات ، والمذابح مع الطرد والتشريد والتهجير ، أوهم العالم أجمع بأن الـمن الحقيقي لا يوجد إلا في مجلس أممي واحد هو ” مجلس الأمن الدولي” ، كما نجحت هذه العقيدة في زرع الخوف في قلوب الناس ، بحيث أصبح الخوف في داخل فلب كل مسلم ، فالخوف في القلب وفي الواقع
وتعلمنا عقيدة الإسلام أن الخوف خوفان :
خوف من الله ، وهذا مطلوب شرعا ، وهذا النوع من الخوف هو الذي يجب أن يكون في النفس (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) [9]، الإنسان الذي لا يتحلى بهذا النوع من الخوف يعيش مخوفا ، ينعدم معه الأمن والأمان.
وخوف من غير الله ، وهو مذموم شرعا ، .( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياؤه ، فلا تخافوهم وخافون ، إن كنتم مؤمنين)[10] .
4- الأمن في الإسلام : الأنواع والأصناف.
مما يتميز به الإسلام عن الأديان والفلسفات ارتباط عقيدته وشريعته بالأمن ، فهو يدخل في صميم فكرة السلام التي تشتق منها كلمة ” الإسلام” ، فالإسلام من السلام ، والسلام في جوهره لا يعني غير ” الأمن “، وفي حديث أبي هريرة 🙁 لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) [11] .
ومن مميزات الأمن في الإسلام أنه متعدد ومتنوع ، فهو من معيار الماديات والمعنويات ينقسم إلى قسمين : قسم مادي ، وقسم معنوي ، القسم المادي له صلة بالضروريات المادية من حياة الإنسان ، مثل ” الأمن البيئي ” و” الأمن الطبيعي” ، ” والأمن الغذائي” ، و ” الأمن الصحي” …والقسم المعنوي ما له صلة بالضرورات المعنوية من حياة الإنسان ، مثل : ” الأمن الفكري والثقافي” و ” الأمن القيمي والأخلاقي ” …من دون هذين القسمين تتعطل المصالح ، وتتوقف الحياة ، ويتسرب الخوف والفزع ، ويسود الخلل والاضطراب ، فتتعطل مهمة التكليف ، وتختل مسيرة العمارة والاستخلاف ، وهي أمور رعتها الشريعة الإسلامية بنفي الحرج والمشقة ، وتيسير مهمة التكليف كما سيتضح بعد.
ومن معيار آخر ينقسم الأمن إلى نوعين : نوع جماعي ، ونوع فردي ، فالجماعي يكون بالجماعة ، ويتحصل بالائتلاف ، مثل : ” الأمن العسكري ” و ” الأمن السياسي” و ” الأمن الاجتماعي ” …أما النوع الفردي فيخص الفرد في الجماعة ، فهو يلزم كل فرد داخل مجتمعه ، ووسط أمته ، مثل ” الأمن الروحي ” و” الأمن النفسي ” .
لم تفرط الشريعة الإسلامية في أي نوع من هذه الأنواع ، ولم تهمل أي قسم من هذه الأقسام ، بل سهرت على هذه الأنواع كلها ، وضمنها للبشرية كلها مسلمين وغير مسلمين ،وجعلت القاعدة العامة لهذه الأنواع والأقسام ما يطلق عليه ( الأمن العقدي) ، فالأمن العقدي حسب تصوري ليس قسما من هذه الأقسام ، ولا هو نوع من هذه الأنواع، بل هو قاعدة هذه الأنواع كلها، منه تنطلق وإليه تعود .
من منطلق خاصية الشمول التي تتميز بها الشريعة الإسلامية ، ومن منطلق أن حياة الإنسان تتوقف على هذه الأنواع كلها يصبح من المتعذر تجزيء الكلام في موضوع الأمن مما يستدعي من الباحث تناول الموضوع في إطار نظرية متكاملة ، وتعدد مفاهيم الأمن إنما هي للتمييز لأن العقيدة في بداية المطاف وفي نهايته تتحكم في توجيه التصرفات في كل الميادين ،وتتحكم النسبية في إعطاء الأهمية لنوع على حساب آخر، وفي الاهتمام بصنف على حساب آخر ، فقد تتولد أضرب من الأمن بحسب نوع الأزمة الحاصلة في الأمة ، حين تكون الأمة مهددة في أمنها العلمي والثقافي يصبح الأمن العلمي والثقافي والمعرفي مطلوب على وجه الضرورة ، وحين تكون مهددة في أمنها العسكري يصبح الأمن العسكري مطلبا ، وحين تكون مهددة في جنسها يكون الأمن الجنسي أو الأسري مطلبا ملحا ، وإذا طالها التهديد في البيئة يصبح الأمن البيئي هو المطلوب ، وهكذا …
- الأمن العقدي : الضرورة والأهمية :
تكمن أهمية الأمن العقدي في الإسلام في كون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول ما بدأ به في جزيرة العرب ، والأمر إذا بدأ به الشارع تصدر سلم الأولويات ، لم يأت الإسلام ليؤمن الصحة والغذاء واللباس والحضارة بل هذه أمور كان لها وجود قبل البعثة ، بل بعث نبي الإسلام ليؤمن العقيدة ، وفي حديث عياض بن حمار عند الإمام مسلم : ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا) [12].
إن سيادة التحضر ليس مزية في ذاته أمام فقدان العقيدة ، عقيدة الحنيفية السمحة التي تهاوت أمام زحف الحضارات الوثنية ، فتقلص دورها أمام الظلم والاضطهاد والاستبداد والنهب والغارات والحروب المستمرة التي لا تبقي ولا تذر ، وقد صور جعفر بن أبي طالب للنجاشي هذا النوع من الأمن تصويرا رائعا مازال محفوظا إلى اليوم لمن أراد أن يقف على حقيقة الأمن الذي جاء به الإسلام لإسعاد البشرية ،لقد استغرقت العقيدة أكثر ما استغرقت بقية الأحكام ، ونجزم بكل تأكيد أن العهد المكي من البعثة انصرف إلى الناحية العقدية ، وأبلى الخلفاء الراشدون بلاء حسنا حين قاموا بصيانة العقيدة والمحافظة عليها علما وعملا وسياسة ، وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين أرجع الثقة إلى نفوس الناس ، ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى بيان هذا الفرق وتأكيده ، ولم يستطع الإنسان أن يوفر الأمن بكل أنواعه لأخيه الإنسان على الرغم من الكم الهائل من القوانين والقرارات ، بل إن مجمل تلك القوانين والقرارات الوضعية هي تهديد صريح لأمن الإنسان المسلم ، فمنذ أن عرفها وطبقا وهو في شقاء متزايد ، ولا مجال للشك في كون الأمة الإسلامية مهددة اليوم في أمنها بكل أنواعه ، وأصبحت الحرب عامة وشاملة سخرت فيها كل وسائل القدح والنيل من عقيدة الإسلام وأمنه .
الأمن نعمة من النعم الكبرى على البشرية لا يدركها إلا من فقدها ، وهو معطى إلاهي وهبة ربانية ، لم يصنعها فيلسوف، ولا أوجدها قائد سياسي معين ، وإنما يسهر الإنسان عليها من موقع الأمانة والمسؤولية ، إننا نعي جيدا أننا نناقش موضوعا لا نملك غيره ، فهل هناك أمن هو أهم من الأمن العقدي ؟ وهل تستقيم العبادة والحياة في غياب هذا النوع من الأمن ؟
إن الأصل في الوجود – كما قررناه قبلا- هو ” الأمن” ، أما الخوف والفوضى فهي أمور طارئة ، ساهم الإنسان في إيجادها بحكم الابتعاد عن سنن الفطرة ، والتنكب عن جادة الحق والعدل.
مهما تنوعت أشكال الأمن في الإسلام فإن مردها إلى نوع واحد هو الأمن العقدي ، ومعناه : الأمن الذي تضمنه العقيدة الإسلامية لمعتنقيها ، ولا يتحقق ذلك إلا بالشروط التي حددتها الآية السابقة : ومنها شرط الإيمان بجميع أركانه ، وشرط العمل الصالح بكل أنواعه .
وتتجلى أهمية الأمن العقدي في كونه مطلب محمود ، تحبه كل الشعوب والأمم ، لا يوجد شعب لا يحب أن يعيش في أمن وأمان ، ولا يوجد مجتمع لا يتطلع إلى الاستقرار ، وحضارة الإنسان عبر التاريخ هي نتاج للاستقرار والأمن ، والشكوى العامة اليوم هي في فقدان الأمن ، فالأمن هو المفقود في حياة الناس اليوم ، فمهما حاول الإنسان أن يحقق الأمن السياسي بسيادة أنظمة سياسية معينة ، ويوفر الأمن الاجتماعي بسلطة القانون الوضعي فإنه فشل في تحقيق الأمن العقدي ، ولما فشل في تحقيق هذا النوع من الأمن انهارت كل الأنواع الأخرى ، وتحولت إلى مجرد أشكال لا مضامين لها ، وعبارات جوفاء وشعارات زائفة ، والسبب في ذلك أن الأنواع الأخرى تبنى كلها على الأمن العقدي ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون:( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ياتيها رزقها رغدا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)[13] .
- العقيدة : الفطرة والمرونة :
لا يجب النظر إلى العقيدة على أنها عامل مكمل ، حين نحتاجه نعمل به وحين لا نحتاجه نتركه ، كلا إن العقيدة عامل حي في تشكيل المجتمع ، وعامل أساس في تكوينه وصياغته ، وعجبا كيف يستقيم الكلام عن العقيدة في غياب كونها هي المعيار المحدد للأشياء ، إن المجتمع الذي نشأ بالعقيدة ، وتكون على العقيدة ، والدولة الإسلامية التي ظهرت على الوجود بالعقيدة لا بد وأن تحافظ عليها ، فإن هي تخلت عما به نشأت تورات واضمحلت ، وقديما قال عمر بن الخطاب : ( نحن أمة أعزنا الله بالإسلام ، إن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله) [14].
مثلما كانت العقيدة وراء صياغة المجتمع الإسلامي الأول والدولة الإسلامية المثالية كانت وراء صياغة العلوم والمعارف والثقافة والتقاليد والأعراف واللغة والأخلاق والسلوك ، كما كانت وراء صياغة الاقتصاد والسياسة والاقتصاد، العقيدة هي التي رسمت مسار الحركة الحضارية في تاريخ الإسلام ، كما رسمت – تبعا لذلك- مسار حياة الإنسان المسلم ، فالمسلم الحق هو الذي يفكر عقديا ، ويعمل عقديا ، ويحاور ويناظر عقديا ، ثم من معيار العقيدة يتحكم في الأقوال والأفعال ، ومن معيارها يفرق بين الحق والباطل ، وبين الحلال والحرام ، ومن خلالها يميز بين السلبي والإيجابي ، والصالح والطالح ، إن التمييز بين الأمور والتميز في الذات لا يحصلان إلا بالعقيدة ، العقيدة من هذا المنظور متحكمة في الشعور وفي اللاشعور لأنها مغروزة في فطرة الإنسان ، ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم )[15] .
ولضمان عقيدة سليمة لا بد من المحافظة على فطرة الإنسان بصيانتها وتنمية مداركها ، وهو الأمر الذي سنتولى التأكيد عليه في فقه الصيانة ، لكن قبل ذلك لا ننسى أن نشير إلى مكانة العقيدة الإسلامية في نفوس الناس سيما العامة منهم ، فإن فاتهم إدراكها بالعلم فإنهم لم يهملوها في جانب العمل ، العمل حين يكون سجية وفطرة[16] .
من خصائص العقيدة الإسلامية أنها ” مرنة” ، والمرونة هي نفي التحجر والصلابة ، ومن شأن هذه الخاصية أن تذب عنها تهمتي الصلابة والتحجر التي حاول أعداء الإسلام إلصاقها بعقيدته ، كما من شأنها أن تنقذها من بين يدي أهلها والمنتسبين إليها ، أولئك الذين حملهم الجهل والتنطع وردود الأفعال غير المحسوبة نحو الزج بها في الغلو والتلدن ، لولا المرونة لما وجدت العقيدة إلى الإيمان سبيل ، ولولا المرونة لما وجدت طريقا على الواقع والمجتمع ، ولولاها لما استمر لها وجود طيلة هذه القرون ، ولولا ها لما ارتفعت حناجر الملايين من المؤمنين تطالب بإقرار حقها في الوجود بل لما تصدى المجاهدون لأعدائها دفاعا عنها وعن حوزة البلاد والعباد.
ومن مظاهر المرونة قابليتها لأن تحل في كل الوقائع والأزمان شريطة أن يتكيف الواقع مع متطلبات الأحكام الشرعية ،فهي في وجدان وفطرة كل إنسان مسلم كيفما كانت جنسيته ، وهي في كل ثقافة إسلامية كيفما كانت لغتها ، وهي في كل حضارة إسلامية كيفما كانت عاداتها وتقاليدها …ويبقى الإجتهاد هو بابها ومدخلها.
- العقيدة بين التأريخ والتاريخ :
قبل أن ننظر إلى العقيدة الإسلامية من منظور وجودي وواقعي على أنها فطرة راسخة في النفس ، أو من منظور نفسي على أنها ملكة مسيطرة على الشعور واللا شعور من فرط التعايش والتعامل التجريبي اليومي ننظر إليها من منظور البحث والتعلم والتلقين ، فهي من هذا الوجه لا تخلص إلا عبر البحث العلمي الذي يتكون بالموضوعات العقدية ، لقد عشنا فترة من الزمن على شحن عقول الطلبة بالمعلومات التي ماتت وفات أوانها ، هذه الموضوعات وإن كانت محسوبة على علم العقيدة إلا أن دورها قد مضى ، والأجدر أن تبقى في التأريخ ، ومن أراد الرجوع إليها فليس على سبيل الاعتقاد والتبني والإلزام.
ورسالة الباحثين في علم العقيدة يجب أن ينصب على قضايا واقعية ، وأن نوجه الطلبة والباحثين إلى ما تحته عمل ، ومن مستلزمات الأمن العقدي الإنصات باهتمام إلى المجتمع ، وتحديد مشاكله ، وتصنيف الشبهات الرائجة فيه ، ومعرفة المخاطر العقدية التي تجتاحه من الحضارات الأخرى ، هذا كله يتم في احترام مطلق للموروث العقدي ، نحن أمة لا تلعن ماضيها ، الأمم التي تلعن ماضيها هي أمة مهزومة في تاريخها ، لقد ورثنا الكتاب والسنة واللغة والتقاليد والأعراف والثقافة والأفكار ، لا بد من الاعتزاز بهذا التراث ، ولا يعني الاعتزاز بالماضي الارتكان المطلق إليه ، إن الطلبة الباحثين هم في أمس الحاجة إلى التفريق بين أمرين عقديين : ما يجب أن يبقى في التأريخ ، وما يجب أن يسود في التاريخ ، وهما وصيتان سنتولى الإشارة إليهما في معرض حديثنا عن فقه الصيانة.
- العقيدة : العلم والمجال :
العقيدة هي أهم مجال من مجالات المعرفة الإسلامية ، ولمكانتها المتميزة احتلت الصدارة بين معارف الإسلام ، وقوبلت موضوعاتها بتقدير كبير ، ولم يكن علماء الإسلام ينظرون إليها على أنها معرفة فحسب بل أطروها في علم مستقل بأن حددوا موضوعاتها ومصادرها وأعلامها ومناهج البحث فيها ناهيك عن القواعد والضوابط والمصطلحات والفرق ، ولم يشك أحد في أن هذا كله يجمعه علم العقيدة الذي من أهم وظائفه نشر العلم بالعقيدة ، ومحاولة تقليص مساحة الجهل بها ، ومخاطبة الناس حسب مستوياتهم المعرفية .
ليست العقيدة في موضوع واحد ، ولا في سلوك أو تصرف واحد ، ولا في سورة واحدة أو في حديث صحيح واحد بل العقيدة هي في القرآن كله بوصفه كتاب الله المعجز ، وهي في كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصرفات وأقوال وأفعال ، وفي كل ما أخبر به عليه السلام من أمور الغيب والشهادة.
لقد استشكلت بعض العقول الإيمان ببعض المسلمات العقدية التي تنافر العقل والعلم ، فعقلهم لا يستسيغها ، والعلم التقني المعاصر – في نظرهم – يرفضها ، والواقع أن هذا الاستشكال لم يأخذ بعين الاعتبار المقاصد العقدية التي رعاها الشارع في تقرير بعض القضايا ، من ذلك نزول المسيح عليه السلام ، وخروج الدجال ، وظهور الجساسة ، وظهور المهدي الخ ، وقد ضحى البعض بالأحاديث الصحيحة المثبتة والمقررة لحقيقة الوقوع ، وقد ردها بتأويل بارد ، بل لم يكلف نفسه الطعن في صحة النص وفق طرق وقواعد نقد النص ، لم يثبت لدينا أنها إسرائيليات تسللت في ظلمة الخلاف والاختلاف إلى الحديث الصحيح ، ولم يتأكد لنا أنها عون لليهودية وللمسيحية على اختراق المنظومة العقدية الإسلامية ، بل المؤكد أنها طرق وقائية لحماية العقيدة الإسلامية ، فهي منبه للعقل الإسلامي ليبقى على يقظة تامة ووعي كامل واحتياط شديد في التمسك بدينه ، وفي الاعتصام بعقيدته ، إذا لم يكن الدجال موجودا فلماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه ؟، ولماذا كان يحذر الأمة منه ؟ ولماذا خرج مرة يبحث عنه وقد شك في ابن صياد ، والقصة في الصحيح ؟ ثم لماذا أعطى أوصافه وعلاماته وما يجب قوله حين خروجه ، كل هذا يدل على أن الإيمان بظهور الدجال في آخر الزمان هو عقيدة تجعل من المؤمن حيا يقظا واعيا ، لا يهاب كذب الكذابين ، ولا دجل الدجالين ، ولا خوارق الممخرقين من البشر ، ثم إن نزول المسيح فيه مفارقة جذرية مع معتقد النصارى ، فالمسيح حسب زعمهم صلب وانتهى أمره، في حين أن القرآن يثبت أنه لم يصلب ، بل رفعه الله إليه ، ولا بد لهذا المرفوع أن ينزل إلى الأرض ، وهو الذي يقتل الدجال ويقضي على الصليب ، ثم يجري عليه الموت الحقيقي كباقي الكائنات ، وقد ذكر القرآن ذلك ، فالأحاديث الواردة في المسيح تتطابق مع ما جاء به القرآن في حقه ، والكل مترابط .
- نحو فقه لصيانة الأمن العقدي :
لا نريد أن يكون كلامنا هنا مجرد تسويد للبياض ، أو كلام مجرد لا طائل من ورائه ، بل محاولة تحمل في طياتها دعوة للتحسيس أولا ، ثم لتحريك العلماء لإيجاد فقه لصيانة العقيدة ثانيا ، ثم العمل على تطبيق كل ذلك بعد ذلك ، فالعلم إذا كان متبوعا بالعمل كان الأجر كاملا ، والاجتهاد موفقا .
إن أهم ما يجب التوقف عنده هو تنمية فقه الصيانة داخل علم العقيدة ، أي : فقه صيانة الأمن العقدي ، والمقصود ب “فقه الصيانة” الفقه الوقائي الذي هو خير من الفقه العلاجي ، فالفقه الوقائي أو فقه الصيانة يدفع بالمشكلة نحو عدم الوقوع ، أما الفقه العلاجي فيعالج المشكلة بعد الوقوع، وبما أن الأمة تعتز بقيمة الأمن العقدي الذي وهبها الله إياه ، وبما أنها مهددة في هذه القيمة الغالية من الداخل والخارج فلا بد من صيانة هذا النوع من الأمن ، وقد استلزم ذلك صيانة الأمن العقدي بفقه مستقل ، يشترط فيه ما يشترط في الفقه الإسلامي المعتبر، فكم من عقيدة تحكمت في الناس وهي باطلة ، إما أنها ثبتت بالعواطف الجياشة أو تسلطت بالقهر ، فكشف التاريخ عن زيفها ، وكم من عقيدة صحيحة في أصلها لكنها ارتبطت بفهوم معوجة سقيمة ، فلطختها فجرت إليها أحكام مجحفة ونعوت قدحية مقرفة ، ومع طول الوقت أثبت التاريخ صوابها .
من مستلزمات فقه الصيانة ما يلي :
- صيانة فطرة الإنسان ،و تنمية مدارك فطرة المؤمن بهذه العقيدة ، فقد غارت الثقافة المعاصرة على فطرة الإنسان بالتحطيم ، لذلك فقد توازنه.
- تكوين الفرد في ذاته تكوينا علميا وتربويا ، وذلك بتبسيط المعرفة العقدية لديه ، فالكثير من المتعلمين يشكون من تعقيد الموضوعات العقدية ، ومن الانحرافات عن جادة علم العقيدة وذلك من قبل ملقنيها ومدرسيها.
- تنقية المعلومات من كتب العقيدة المحسوبة على علم العقيدة ، من ذلك قضايا القذف والقذع ونيل بعض الفرق الإسلامية من بعض ، وأخطرها ظاهرة التكفير.
- تدريس علم العقيدة بمناهج علمية يراعى فيها التحقيق والضبط والموضوعية والواقعية والتيسير، والإبتعاد عن القسوة والفظاظة والغلظة مع الشحن والتسويد والغموض ، فإن أردنا صيانة للأمن العقدي المطلوب فلا بد للعلماء من ترغيب الناس في العقيدة بتقديمها في صفائها ونقائها ورونقها الذي يصلح للتربية والتشريع ناهيك عن التربية والدعوة والتكوين.
- لا يجب حبس العقيدة في مجال العلم الشرعي وحده بل لا بد من الدفع بها إلى كل التخصصات مثل علم النفس وعلم الاجتماع والبيولوجيا وعلوم فلسفة الطبيعة .
- إعادة النظر في طرق العامل العلمي مع الموضوعات العلمية القديمة البالية مثل المشادات النظرية بين المعتزلة والأشاعرة ومستحدثات الفرق الكلامية وردود أهل السنة عليها فتدريس هذه الموضوعات والبحث فيها لا يعني بالضرورة التحول إليها ، ثم إن هذه جميعا لا يجب أن تغطي على الوضع العقدي ، والموقف العقدي من العقيدة الإسلامية للفرق والمذاهب والتيارات والجماعات والأحزاب التي ظهرت حديثا في العالم الإسلامي.
- تحديد أصول ومصادر العقيدة بدقة ، وعرضها بطريقة علمية ، وتلقينها وترغيب الطلبة والباحثين للرجوع إليها لأن من يبحث في العقيدة يميل على بعض المراجع والكتب التي لا تشفي العلة ولا تروي الغلة في أمور الاعتقاد ، وبعض الشيوخ يجبرون الطلبة والتلاميذ على الاكتفاء بأشرطتهم المرئية أو المسموعة ، والميول إلى بعض التصرفات الشاذة في حق الدين والناس.
- الاهتمام بلغة العقيدة ، ولغة العقيدة هي العربية ، فإن اللغة العربية تتوارى اليوم أمام اللغات الأجنبية في ديار المسلمين ، والمطلوب إنصاف اللغة العربية في الجامعات والمعاهد والمدارس وفي التخاطب اليومي داخل البلاد الإسلامية ، فإذا أنصفت اللغة أنصفت العقيدة.
- في تأمين الأمن العقدي :
9-1- القوة المادية للأمن العقدي :
إذا كان الإسلام قد وفر للمؤمنين الأمن العقدي وفق الشروط السابقة فهل وفر المسلمون لهذا الأمن أمنا ؟
إن المعطيات المتوفرة أمامنا اليوم تبين أن هذا النوع من الأمن مهدد ، أرواح المسلمين تزهق في كل مكان ، والفتنة افتعلت في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي ، ونجح الغرب في أن يحول الصراع من صراع بين الغرب والشرق إلى صراع بين الشرق والشرق ، وخريطة العالم الإسلامي تتآكل يوما بعد آخر ، وحوادث التشريد والتهجير والقتل الفردي والجماعي قائمة على قدم وساق ، ونجح الغرب في تسخير التكنولوجيا العسكرية لإرهاب العالم الإسلامي ، أما امتلاك أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة النووية فهي في قاموس الدول الكبرى قوة ردع ، وأساس الأمن ، بل أصبح معروفا أن الدول المالكة للتكنولوجيا العسكرية هي الدول الآمنة على وجه المعمور ، والدول التي تفتقر إلى هذا النوع من السلاح هي المهددة في سلمها وأمنها ومنها بلدان العالم الإسلامي ، وغالبا ما توجه التهمة إلى هذه البلدان بأنها هي المزعزعة للاستقرار والراعية للإرهاب ، وأصبح واضحا – انطلاقا من لعبة الأحداث العالمية- أن الأمن الحقيقي هو أمنان : أمن الرحمن ، وهو أمن الإسلام ، ومنه الأمن العقدي ، وأمن الإنسان ، ولا يتحقق هذا النوع من الأمن إلا بامتلاك تكنولوجيا الردع العسكرية ، من دون هذه التكنولوجيا سيبقى الخوف هو المسيطر على الأقطار والديار ، وسيذب في العقول والنفوس ، ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )[17].
9-2- القوة الروحية للأمن العقدي :
تقدم معنا على أن الأمن هو خاصية في فطرة كل الكائنات ، حتى الوحوش والحشرات تبحث عن مأمن للعيش والاختباء ، وتمارس حياتها البهيمية على طريقة الغريزة والفطرة ، أما الأمن العقدي بالنسبة للإنسان فينطلق من ذات الإنسان أولا ، ونعني بذلك ضمان الاستقرار النفسي والهدوء والطمأنينة في العبادة ، والسكينة في ممارسة الشعائر ، ثم الشعور بالأنس مع الكائنات الأخرى ، وحسن العشرة مع بني البشر على هذه الأرض ونشر السلم والسلام على وجه المعمور ، ويجب الانتباه إلى أن مفهوم الأمن في الإسلام يختلف عن مفهوم الأمن في التصور الغربي ، الأمن في الغرب من sécurité ، الذي يأتي من التسامح ، وهو مفهوم تولد من الصراع العسكري الذي عاشته أوربا خلال الحربين الكونيتين ، أي أن مفهوم الأمن كان نتيجة الحروب والصراعات بخلاف مفهوم الأمن في الإسلام فهو معطى إلهي تشريعي ، وينصرف إلى المعنى الروحي لا المادي ، فهو ضرورة من الضرورات الخمسة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية في جانب ” حفظ الدين”.
بالأمن العقدي تحقق التماسك الروحي وتقوت الروابط الاجتماعية على وجه الأرض ن وتماسكت الشعوب وتآلف قلبها ، فتوجهت إلى عبادة رب واحد ، بتعليم وشرائع نبي واحد ، وتوجهت إلى قبلة واحدة ، وبهذه المعطيات حققت حضارة عالمية ذات رسالة واحدة وهي عبادة الله كما أراد الله ، بشريعة وعقيدة واحدة أبدية ودائمة ، ولضمان الاستمرارية لا بد من تأمين هذا الأمن الذي يشير إليه رب العزة مذكرا نبيه عليه السلام بقوله : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )[18] ، وقوله : ( لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) [19]، وتقدم سورة الفيل دليلا قاطعا على هذا النوع من الأمن ، لأن السبب الذي حمل أبرهة على الهجوم هو سبب عقدي صرف ، إنها هجمة مسيحية على بيت الله لهدمه وردمه ، لكن الرد جاء سريعا كما بينت السورة ، ، هذا كله من فعل الرب عز وجل ، فما هو فعل الإنسان تجاه المحافظة على الأمن العقدي وتأمينه ؟
للإنسان المسلم تجاه هذه القضية مسؤوليات يجب التنصيص عليها ، وهي :
- أولا : تحقيق الأمن العقدي على المستويين الذاتي ، الأمن العقدي موجود لم يوجده الإنسان بفعل ذاته ، بل هو جاعلية إلهية جبل الإنسان عليها بالفطرة ، لا بد من تنميتها في الذات .
- ثانيا : تحقيق الأمن العقدي على الصعيد الاجتماعي ، مثلما تبدى في الذات يجب أن يتبدى في المجتمع ، وهذه هي مسؤولية العلماء والحكام .
- إن ” تحقيق الأمن” و” تأمينه ” هما نعمة تستوجب الشكر ، وشكر النعمة ضمان لاستمرارها ، وهما من علامة اكتمال الدين ، يقول تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) [20] .
- إلغاء القوانين والقرارات التي تخالف العقيدة الإسلامية وتزاحمها في محيطها ومجالها ، فهناك قوانين كثيرة تشكل تهديدا للأمن العقدي في ديار المسلمين.
- وضع قوانين زجرية ورادعة ضد كل من يهدد المجتمع المسلم في أمنه العقدي ، فإذا لم تكن هذه القوانين الزجرية فيجب أن تكون وإذا كانت موجودة فيجب أن تفعل.
- مستلزمات الأمن العقدي في ضوء التحديات:
نعني بالمستلزمات الأمور التي يتحقق بها ” الأمن العقدي” على المستويين : النظري والعملي ، نقدم هذه المستلزمات في عناصر خمسة ، وهي كما يلي :
- أصول الأمن العقدي :
لابد للأمن العقدي من أصول يستقى منها ، ولن تكون هذه الأصول غير كتاب الله الذي هو كتاب أمن وأمان ،( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمومنين ) [21]، ثم سنة المصطفى الأمين الذي جعل الأمن في طاعته ، والخسران والضياع في التنكب عن سنته ، وهو القائل : (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى[22]) ، وفي حديث حذيفة : ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت من السماء في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن فقرأوا القرآن ، وعلموا من السنة) [23] .
ومن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم الأمنة ، وهي بمعنى الأمان ، ذكره القاضي عياض في الشفا [24]، وفي الحديث : ( وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون)[25] ، والأمان قيل من البدع والمنكرات ، وقيل من الاختلاف والفتن ، وكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع بعده ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : ( يا عدي هل رأيت الحيرة ؟ قلت: لم أرها ، وقد أنبئت عنها ، قال : فإن طالت حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله “…” قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم …) [26].
يعلق القاضي عياض فيقول : ( قال بعضهم : الرسول هو الأمان الأعظم ما عاش ، وما دامت سنته باقية فهو باق ، فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء والفتن)[27] .
- ثوابت الأمن العقدي :
حياة المسلم مثل حياة الكائنات البشرية على وجه الأرض ، لكل أمة أمور متغيرة في حياتها وأخرى لا تتبدل ولا تتغير ولا تتحول ، في مقدمة الثوابت ” اللغة العربية ” التي هي أساس التواصل بين أفراد الأمة في المجتمع الواحد ، وبين الأمة كلها والأصول السابقة : القرآن والسنة ، اللذان هما أصلان عربيان ، القرآن عربي ، والسنة عربية ، والنبي عربي، وهو أفصح من نطق بلغة الضاد ، ويخطئ من أراد المحافظة على الأمن العقدي بلغة غير العربية ، وثاني هذه الثوابت التقاليد والعادات والأعراف المستوحاة من العقيدة الإسلامية ،ذلك أن هذه العناصر جميعها هي عون قوي على تحصيل نوع الأمن العقدي ، فمن فرط فيها فقد ضيع الأمن المنشود ، لكن الناس لا تعير بالا للثوابت فتعيش في فوضى من التنقلات والانتقالات الاعتباطية، بين لغات ولهجات وأنماط عيش غربية ، وتقاليد وتقليعات وافدة ، إن كانت في بيئتها ناصعة ومشرقة فهي تشكل تهديدا حقيقا لواقع العقيدة الإسلامية .
ج- أدوات الأمن العقدي .
يتحصل الأمن العقدي بالأخلاق السوية ، والأخلاق السوية هي الأخلاق التي جاء بها الإسلام لا الأخلاق الفلسفية ، وكلاهما يحققان العيش على صواب ، والعيش على صواب سبيله سلك “الصراط المستقيم” الذي به تستقيم “العبادة”، والتقدم هو ثمرة للرقي الحضاري والنمو الإجتماعي الذي به تتحقق ” السعادة”، وكلاهما وجهان لمقصد واحد، فالسعادة في العبادة ، والعبادة هي الطريق الوحيد للسعادة، فالحضارة المدنية والتقدم التكنولوجي هي أمور ليست مزية في ذاتها بالنسبة للإسلام ،لأنها لا تحقق الأمن العقدي المطلوب، بل التقدم الحقيقي هو أن تعيش البشرية على حق ، وهذا ما تميزت به الجماعة المؤمنة الأولى : جماعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فبفضل أخلاقهم العالية، و قيمهم المثالية عبدوا الله حق العبادة ، وبفضلها سادوا العالم كله ، ولم يكن لهم طمع في الحضارات سوى تبليغ قيم الإسلام.
د- حراسة الأمن العقدي :
هي حراسة بنيوية وتاريخية .
تتمثل الحراسة البنيوية في تكوين هذا الأمن وتشكيله ، فمرد هذا النوع من الأمن إلى الأصول ، وثمرة هذه الأصول الأحكام الشرعية التي جاءت بها ، والأحكام تستنبط من أصولها بالعلوم ، وتفقه وتفهم بالعلوم ، وتطبق بالعلوم ، ولا أحكام بلا علوم ، لأن الاعتقاد في الله واليوم الآخر لا يكون بالجهل ، تلك هي الحراسة البنيوية.
أما الحراسة التاريخية في صيانة هذا النوع من الأمن من الافتئات والكذب والافتعال ، ثم الذب عنه من كل متقول مفتعل ، لذلك أصبح المطلوب اليوم إعادة الاعتبار للعلوم الشرعية التي توصف هي الأخرى بأوصاف قدحية ، أخطرها أنها علوم قديمة وبالية ، لم تعد صالحة للعقل الإنساني المعاصر ، ثم إنها تغذي التطرف والإرهاب .
ه- جنود الأمن العقدي :
أساس نجاح الجيش في مهمة الدفاع عن حوزة الوطن وتوفير الأمن للشعب يكمن في القوة التي يكونها الجنود كلهم لا جندي واحد ، كذلك العلماء في علاقتهم بالدعاة ، كل فئة تكمل جهود الأخرى ، العلماء يستخلصون الأحكام المتعلقة بالأمن العقدي ، ويفقهونها ، ويفسرونها ، والدعاة يرغبون الناس فيها ، فينشرونها ويذبون عنها ، لولاهم لضاع مفهوم الأمن العقدي ، ولااندرست معالمه ، والأمة اليوم في أمس الحاجة إلى العلماء والدعاة ، ينفضون الغبار عن هذا الموضوع الذي أراد له خصوم الإسلام أن يأخذ مفاهيم متناقضة تنعكس سلبا على عقيدة الإسلام.
- خلاصة عامة.
هذا الموضوع هو موضوع قديم جديد ، قديم الوجود في التراث الإسلامي ، لأن الإسلام جاء به ، فحققه وأمر به ، وجديد في طرحه ومعالجته ، وهو لا يثار اليوم- على المستوى العلمي- إلا في ضوء التحديات التي تجتاح الأمة والتراث إلى درجة أن ما كان معروفا ومألوفا من هذا المفهوم أصبح غائما وسط ضباب كثيف من النعوت والأوصاف المخيفة والمفزعة ، وما في العمل والممارسة يخيف أكثر ، جاءت هذه الورقة لتساهم – إلى جانب الورقات الأخرى – في إلقاء الضوء على هذا الموضوع المهم رغبة في إعادة المفاهيم السليمة إلى مصطلح ” الأمن العقدي” ، ثم إعادة الثقة في نفوس المسلمين، أولئك الذين ذب إليهم الخوف والفزع في أن الإسلام دين العنف والتطرف والإرهاب، وبما أن الموضوع يحتاج إلى التأصيل والنقد والتفعيل فقد اخترنا لهذه الورقة العنوان الآتي : (الأمن العقدي بين المقومات والتحديات) ، نريد ب ” الأمن العقدي ” بيان مفهومه وتحديد أنواعه وأقسامه ، ونريد بالمقومات الأصول المعتبرة للإسلام وهي : القرآن الكريم والسنة النبوية ، والثوابت مثل اللغة والعادات والتقاليد والأعراف ، والثوابت هنا هي على سبيل التمثيل لا الحصر ، الغرض من ذلك ألا تستقى مفاهيم الأمن العقدي إلا منها ، ونريد ب “التحديات” ما يحاك ضد أمن الأمة من مؤامرات ودسائس ، تلك المؤامرات التي زرعت بذور الشك في أصول الإسلام وثوابته فصيرتها مخيفة، وعمدت في الوقت نفسه إلى زرع بذور الفتنة في العالم الإسلامي إلى درجة أن الأمن في ديار المسلمين أصبح مفقودا ، لهذه الأسباب مجتمعة دار موضوع هذه الورقة على عناصر خمسة : الأول تساؤلات بين يدي الموضوع ، والثاني في طرح الإشكال العام للموضوع، والثالث في أنواع الأمن العقدي وأصنافه ، والرابع في ضرورة الأمن وانعكاساته الإيجابية ، والخامس والأخير في مستلزمات الأمن العقدي في ضوء التحديات ،بني هذا العنصر على ست فقرات : الفقرة الأولى في أصول الأمن العقدي ، والثانية في أسس الأمن العقدي ، والثالثة في أدوات الأمن العقدي ، والرابعة في أن العلوم الشرعية هي الحارس الأمين للأمن العقدي ، والفقرة الخامسة في أن التكنولوجيا هي القوة المادية للأمن العقدي . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1] – قدم هذا البحث للندوة العلمية الدولية التي نظمتها كلية الشريعة بآيت ملول أكادير في موضوع : ( فقه صيانة الأمن العقدي وأثره في تنمية الفرد داخل المجتمع ) وذلك يومي : الإثنين والثلاثاء 10-11- جمادى الآخرة 1431ه/ الموافق 24-25ماي 2010م ، نظم الملتقى بمدرج الحاج يحيى بن يدر ، والمقال منشور بمجلة الاستناد ، العدد الاول ، شتنبر 2013م ، من الصفحة 11 إلى 49.
[2] – سورة النور الآية 55.
– أنظر خطبة الفتح الأعظم – خطبة فتح مكة المكرمة في رمضان من السنة الثامنة – أعدها الدكتور فاروق حمادة- ص19 وما بعدها- الأولى – دار الثقافة- البيضاء- المغرب.[7]
[9] – سورة الأعراف الآية 205.
[10] – سورة آل عمران الآية 176
[11] – أخرجه مسلم في صحيحه – كتاب الإيمان- باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإييمان ، وان إفشاء السلام سبب لحصولها- 1/74 رقم الحديث 54.
– طرف من حديث أخرجه مسلم في صحيحه – كتاب الجنة – باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار- 4/2197 رقم الحديث 2865.[12]
[13] – سورة النحل الآية 112.
– قول منسوب لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .[14]
[16] فقد سموا بها بناتهم ، وكثير منهم يتسمى ب ” عكيدة” ، بثلاث نقط فوق الكاف ، الذي يوازي في النطق الحرف اللاتيني g ، و “عكيدة ” من ” العقيدة ” ، ولا معنى لها – في نظري – غير هذا.
[17] – سورة الأنفال الآية 61.
[21] – سورة النحل الآية 89.
[22] – حديث صحيح ، أخرجه البخاري في جامعه – كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة- باب الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنظر الفتح 13/ 249 رقم الحديث 7280.
[23] – حديث صحيح – المصدر السابق- حديث رقم 7276.
[24] – الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/42.
– حديث صحيح ، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – كتاب فضائل الصحابة- باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه – 4/1961حديث رقم 2531.[25]
[26] – أخرجه البخاري في الجامع الصحيح – كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام- الفتح 6/610-611-رقم الحديث 3595.
[27] – الشفا 1/42.