السنة و الحديث, النقلانية والمجتمع

طبيعة النقد في نقد الرواية الحديثية

 

  الكلام عن “النقد” في علم الحديث ليس من باب التقليد الذي سار عليها البعض إما بطريق “الاجترار المر” حين يكون النقد لا طائل من ورائه ، وإما بطريق “الإسقاط الممقوت” حين ننزل على بعض النظريات من العلوم الإنسانية أو بعض القواعد النقدية  ونسقطها قسرا على الحديث النبوي الشريف بدعاوى ومبررات كثيرة ، الكلام عن النقد في علم الحديث هو خصوصية من دونها لا تقوم الرواية الحديثية ، ولا تستقيم السنة النبوية ، وليُعلم أن كلمة “النقد” عن المحدثين ظهرت ، فهم فرسانها الأوائل ، ولا يمكن لمن أبدعها وكان سببا في وجودها بالأمس يصبح اليوم متخلفا عنها ، أو بعيدا عن ممارستها ، كما أن مصطلح ” التاريخ ” عند المحدثين ظهر ، فهم الذين أطلقوا هذا المصطلح ، وهم فرسانه الأوائل ، فعند المحدثين أُخذ مصطلح ” النقد ” ، وعنهم أُخذ مصطلح ” التاريخ ” ، والعلاقة بين النقد والتاريخ في علم الحديث علاقة عضوية ، ولا أريد أن أوسع الكلام في هذه النقطة ، لكنني أنبه ” المنتقدة الجدد ” أن يقرأوا ، ويطالعوا ، وإذا أعوزهم ذلك فليسألوا حتى يضعوا بينهم وبين “الأمية الشرعية” حاجزا.

 ليس كل كلام عن الحديث النبوي الشريف هو نقد علمي يمكن التعويل عليه ، فقد يظن من يتكلم في الحديث النبوي الشريف أنه ينقد ، لكنه لا يدري أن كلامه بعيد عن حقيقة النقد الذي يصلح لتقويم الرواية أو ردها ، فقد يكون الكلام شتما ، وانطباعا تختلط فيه العاطفة بالهوى والمصلحة ، النقد مطلوب في هذا العلم ، ولولا النقد لما استقام العلم ، ولما حُفظ الحديث ، لولا النقد لقال من شاء ما شاء ، فبالنقد مُحص القول ، وضُبط الخبر ، وقد تم ذلك بقواعد وضوابط منهجية ما أحوج “المنتقدين” إلى التحلي بها ، وإلا فتمحيص أقوالهم  والتصدي لها ببيان زيفها وخلطها وخبطها هو من “النقد” أيضا ، فمثلما وُجد النقد ل “صيانة الرواية” من الكذب فإنه وجد ل “للدفاع عنها” من كل من يمارس النقد من دون الأخذ بأسبابه العلمية ، وقد علمنا المنهج النقدي أن ننظر في أي كلام يستهدف السنة قبل العمل به .

 النقد الحديثي له ثلاثة مواصفات : سابق ولصيق ولاحق   :

 سابق للرواية ، أي أن النقد الحديثي سابق على الحديث ، فقد صاغ المحدثون منهجهم في تخليص الصحيح من غيره ، وكانت صورته واضحة عندهم ، فانطلقوا وقد حددوا الهدف ، ولم يكن فعلهم وفكرهم ارتجاليا ، فوضويا كما يتصور البعض بل وفق رؤية نقدية كاملة ، وهي نظرية ناضجة وناجحة ، ومن عرف ما قصد هان عليه ما وجد ، فكل العراقيل والمشاكل والتحديات كانت هينة عندهم ، وقد عرفوا كيف يتعاملون معها .

لصيق بالرواية ، لم يتخلف عنها قيد أنملة ، وقد بينت محاضرة الدكتور عبد السلام أبوسمحة  ذلك ، فالذين ينتقدون أحاديث معينة من الصحيحين هؤلاء ينتقدون ماذا ؟

هل النقاد الذين مارسوا النقد على تلك الأحاديث كانوا غير واعين بما تضمنته هذه الأحاديث من علل في السند والمتن ؟

حقيقة نقد هؤلاء – إن كان نقدا- هوموجه لنقد نقاد الحديث للحديث ، ونود أن نعرف خصائص النقد عند هؤلاء مثلما عرفنا خصائص النقد عند المحدثين ، نود أن نعرف ذلك حتى تكون المناقشة مُوجهَة ، وتكون في ” المنهج ” .

     لا أظنهم يتحلون بمعايير نقدية يمكن التعويل عليها في ممارسة النقد العلمي ، البناء والموضوعي .

 ثم إنه نقد لاحق على الرواية ، صحيح أن الرواية توقفت ، وانتهى السند ، ودخل في مصادر السنة ، والمصادر جُمعت وحُصرت ، لكن النقد الحديثي مازال حيا ، وسيبقى ما بقي الحديث موجودا ، فجانب منه يخص الحديث في التخريج والتشجير والمقابلة والشرح والتفسير ومعالجة القضايا الحضارية العامة بالسنة النبوية والتحقيق إلخ ، وجانب منه يتصدى لمعالجة المشاكل المثارة عن الحديث وعلومه ، فكل الزوابع التي تُثار حول السنة النبوية تدخل في دائرة اهتمام النقاد ، فالشكر لهم أنهم جعلوا من أنفسهم موضوعا للنقد الحديثي ، يمارس النقد عليهم كما مورس على من سبقهم ، نعني الطاعنين والمتشككين وسراق العلم ، فمن “العيب المنهجي” أن نتكلم في المتقدمين ونترك المتأخرين من المُحْدَثين والمعاصرين ، أولئك الذين عاثوا في العلم فسادا .

 أُجمل فأقول : إن النقد الحديثي سابق للرواية الحديثية ، ولصيق بها ، ولاحق عليها ، وكل صاحب صنعة يمارس حقه الطبيعي في ممارسة صنعته ، فمثلما أن الله عز وجل صرف العرب من الفصحاء والبلغاء عن الإتيان بمثل القرآن أو بسور من مثله ، وهو ما أطلق عليه بعض العلماء ” الإعجاز بالصرفة ” فإن الله تعالى صرف هؤلاء عن فهم السنة واستيعاب منهجها النقدي كما صرف المستشرقين من قبل عن سندها .

نشر بالموقع بتاريخ 4/4/2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *