الكلام عن “النقد” في علم الحديث ليس من باب التقليد الذي سار عليها البعض إما بطريق “الاجترار المر” حين يكون النقد لا طائل من ورائه ، وإما بطريق “الإسقاط الممقوت” حين ننزل على بعض النظريات من العلوم الإنسانية أو بعض القواعد النقدية ونسقطها قسرا على الحديث النبوي الشريف بدعاوى ومبررات كثيرة ، الكلام عن النقد في علم الحديث هو خصوصية من دونها لا تقوم الرواية الحديثية ، ولا تستقيم السنة النبوية ، وليُعلم أن كلمة “النقد” عن المحدثين ظهرت ، فهم فرسانها الأوائل ، ولا يمكن لمن أبدعها وكان سببا في وجودها بالأمس يصبح اليوم متخلفا عنها ، أو بعيدا عن ممارستها ، كما أن مصطلح ” التاريخ ” عند المحدثين ظهر ، فهم الذين أطلقوا هذا المصطلح ، وهم فرسانه الأوائل ، فعند المحدثين أُخذ مصطلح ” النقد ” ، وعنهم أُخذ مصطلح ” التاريخ ” ، والعلاقة بين النقد والتاريخ في علم الحديث علاقة عضوية ، ولا أريد أن أوسع الكلام في هذه النقطة ، لكنني أنبه ” المنتقدة الجدد ” أن يقرأوا ، ويطالعوا ، وإذا أعوزهم ذلك فليسألوا حتى يضعوا بينهم وبين “الأمية الشرعية” حاجزا.
ليس كل كلام عن الحديث النبوي الشريف هو نقد علمي يمكن التعويل عليه ، فقد يظن من يتكلم في الحديث النبوي الشريف أنه ينقد ، لكنه لا يدري أن كلامه بعيد عن حقيقة النقد الذي يصلح لتقويم الرواية أو ردها ، فقد يكون الكلام شتما ، وانطباعا تختلط فيه العاطفة بالهوى والمصلحة ، النقد مطلوب في هذا العلم ، ولولا النقد لما استقام العلم ، ولما حُفظ الحديث ، لولا النقد لقال من شاء ما شاء ، فبالنقد مُحص القول ، وضُبط الخبر ، وقد تم ذلك بقواعد وضوابط منهجية ما أحوج “المنتقدين” إلى التحلي بها ، وإلا فتمحيص أقوالهم والتصدي لها ببيان زيفها وخلطها وخبطها هو من “النقد” أيضا ، فمثلما وُجد النقد ل “صيانة الرواية” من الكذب فإنه وجد ل “للدفاع عنها” من كل من يمارس النقد من دون الأخذ بأسبابه العلمية ، وقد علمنا المنهج النقدي أن ننظر في أي كلام يستهدف السنة قبل العمل به .
النقد الحديثي له ثلاثة مواصفات : سابق ولصيق ولاحق :
سابق للرواية ، أي أن النقد الحديثي سابق على الحديث ، فقد صاغ المحدثون منهجهم في تخليص الصحيح من غيره ، وكانت صورته واضحة عندهم ، فانطلقوا وقد حددوا الهدف ، ولم يكن فعلهم وفكرهم ارتجاليا ، فوضويا كما يتصور البعض بل وفق رؤية نقدية كاملة ، وهي نظرية ناضجة وناجحة ، ومن عرف ما قصد هان عليه ما وجد ، فكل العراقيل والمشاكل والتحديات كانت هينة عندهم ، وقد عرفوا كيف يتعاملون معها .
لصيق بالرواية ، لم يتخلف عنها قيد أنملة ، وقد بينت محاضرة الدكتور عبد السلام أبوسمحة ذلك ، فالذين ينتقدون أحاديث معينة من الصحيحين هؤلاء ينتقدون ماذا ؟
هل النقاد الذين مارسوا النقد على تلك الأحاديث كانوا غير واعين بما تضمنته هذه الأحاديث من علل في السند والمتن ؟
حقيقة نقد هؤلاء – إن كان نقدا- هوموجه لنقد نقاد الحديث للحديث ، ونود أن نعرف خصائص النقد عند هؤلاء مثلما عرفنا خصائص النقد عند المحدثين ، نود أن نعرف ذلك حتى تكون المناقشة مُوجهَة ، وتكون في ” المنهج ” .
لا أظنهم يتحلون بمعايير نقدية يمكن التعويل عليها في ممارسة النقد العلمي ، البناء والموضوعي .
ثم إنه نقد لاحق على الرواية ، صحيح أن الرواية توقفت ، وانتهى السند ، ودخل في مصادر السنة ، والمصادر جُمعت وحُصرت ، لكن النقد الحديثي مازال حيا ، وسيبقى ما بقي الحديث موجودا ، فجانب منه يخص الحديث في التخريج والتشجير والمقابلة والشرح والتفسير ومعالجة القضايا الحضارية العامة بالسنة النبوية والتحقيق إلخ ، وجانب منه يتصدى لمعالجة المشاكل المثارة عن الحديث وعلومه ، فكل الزوابع التي تُثار حول السنة النبوية تدخل في دائرة اهتمام النقاد ، فالشكر لهم أنهم جعلوا من أنفسهم موضوعا للنقد الحديثي ، يمارس النقد عليهم كما مورس على من سبقهم ، نعني الطاعنين والمتشككين وسراق العلم ، فمن “العيب المنهجي” أن نتكلم في المتقدمين ونترك المتأخرين من المُحْدَثين والمعاصرين ، أولئك الذين عاثوا في العلم فسادا .
أُجمل فأقول : إن النقد الحديثي سابق للرواية الحديثية ، ولصيق بها ، ولاحق عليها ، وكل صاحب صنعة يمارس حقه الطبيعي في ممارسة صنعته ، فمثلما أن الله عز وجل صرف العرب من الفصحاء والبلغاء عن الإتيان بمثل القرآن أو بسور من مثله ، وهو ما أطلق عليه بعض العلماء ” الإعجاز بالصرفة ” فإن الله تعالى صرف هؤلاء عن فهم السنة واستيعاب منهجها النقدي كما صرف المستشرقين من قبل عن سندها .
نشر بالموقع بتاريخ 4/4/2019