بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وبعد :
فكثيرا ما يلتبس علينا مشكل تقرير الصواب في معالجة قضية معينة ، فنقول : إنها “فكرة علمية” ، أو لقد عولجت “علميا “، أو ” لقد برهن العلم على أنها كذا وكذا” ، أو “لقد ثبت علميا” إلى غير ذلك من الصيغ التي تُشعر بتوظيف العلوم في معالجة قضية معينة ، “جدلية ” هذه القضية ما يلي :
هل نفكر بالعلوم في البحث العلمي أم نفكر في العلوم ذاتها بالبحث العلمي ، يعني : هل نفكر بالعلوم أم نُعمل الفكر في العلم نفسه ؟ ولا أعني ب ” العلوم ” هنا غير ” العلوم الإسلامية ” ، وبالتحديد ميدان البحث العلمي داخل ” الدراسات الإسلامية ” ؟
الواقع اننا نفكر في العلوم أولا ، نقدا واستيعابا وتمثلا وخدمة حتى إذا استقامت على سوقها ، وأصبحت صالحة للنظر بها في القضايا فكرنا بها ، فهي أداة ووسائل موصلة للفهم السديد ، نُعول عليها في مأخذ الفهم ، فعزلها عما لأجلها وجدت ، والتفكير في الموضوع من دون علمه يوقع في آفتين : إما الغلو والتطرف أو التسيب والفوضى ، وهو جواب صريح عن سؤال : من أين يأتي الغلو والتطرف في الدين ؟ ومن أين يدخل التسيب والجهل والفوضى .
فهل يستقيم أن نتكلم في الفقه من دون علوم الفقه ؟ والأصول من دون علم الأصول ؟ واللغة العربية من دون علوم اللغة ؟ والقراءات من دون علم القراءات ؟ وهل يليق أن أعالج الحديث والسنة من دون علومهما ؟
نبّهنا نبي الأمة ، الذي لا ينطق عن الهوى إلى هذه القضية فقال : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين) ، فقيد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث ب “العلم” ، وأن الذي يجب حمله هو العلم ، والحامل هو أهل العلم العدولين الصادقين ، المحققين والمدققين ، في ضد ثلاثة أصناف : المحرفين الغلاة ، والمؤولين الجهلة ، والراغبين في الهدم والإبطال .
بيد أن البعض يحاول أن يلصق الغلو والتطرف بالعلوم ، ومن هنا يدعو إلى التحرر منها ، وهذا يحاول أن يوقعك في غاية ما يصبو إليه ، لكي يحقق الغلو والتطرف أو يدعو إلى التحرر والتسيب يحاول أن يتنصل من العلوم ، لأن العلوم تقف حائلا في وجه تحقيق مراده ، فيهاجمها من موقع علوم أخرى خارجية ، أو من موقع اللاعلم .
الغلو والتطرف هو حالة إنسانية لها صلة بالذات قبل العلم ، إذ لو كان الغلو في العلوم لوضعنا علماء الأمة مثل الشافعي والشاطبي وابن خلدون والسيوطي والغزالي وابن رشد وغيرهم في عداد الغلاة والمتطرفين ، زد على هذا أن التراشق بهذا المصطلح لم يجر في سياق نقدهم لبعضهم ، وإن كانوا قد أجروه على مخالفيهم في الملة والنحلة والعقيدة .
الغلو اليوم أمسى ظاهرة مرضية تصيب الإنسان في حياته العامة ، فالمغالي مغالي في كل شيء ، والمقصر الجاهل هو مقصر في كل شيء ، وللتربية دور كبير في التحديد من هذه الآفة ، وإذا كانت التربيةُ سليمةً فهي تساند العلوم من هذه الناحية ، ( واتقوا الله ، ويعلمكم الله ) ، وإذا كانت منحرفةً فإن الغالي يركب على العلوم الإسلامية لتمرير غلوه وتطرفه ، أو لإضفاء صبغة المشروعية في تسيبه وانحلاله .
فإذا تعافى الإنسان في قلبه وسلوكه أمكنه أن يتعلم ، كما أمكنه أن يساير العلوم بفكر متزن ومعتدل ، فلننظر في التربية وأساليبها داخل المؤسسات ، ومنها مؤسسة البيت أولا ، ثم داخل البرامج التعليمية والتكوينية والتثقيفية ثانيا .
وبعضهم يُغلب النظرة التراثية على العلوم الإسلامية ، فيأخذ من القرن الثالث والرابع والسابع مدعيا تأصيل المعرفة ، ومبررا لدعواه ، ليس كل ما في التراث الإسلامي يمكن أن نستدل به على العلوم الإسلامية ، أو يمكن أن نحاجج به المعرفة الشرعية في صبغتها العلمية ، فليس قول الإمام الغزالي حجة على علم الفقه ، أو قول الطاهر بن عاشور حجة على علم المقاصد ، أو قول الآمدي حجة على علم أصول الفقه ، (العلم ) هو الحجة وأقوال العلماء استئناس ، يمكن تأكيدها كما يمكن نقدها وردها ، وبالمثل فليس كل ما في التراث الإسلامي هو جليل وجميل بل فيه الغث والسمين ، وفيه ما ينفع وما لا ينفع ، فقد لا يكون نافعا بمرة ، وقد يكون نافعا لوقت دون وقت ، ما لا ينفع يبقيه العلم في “التأريخ” ، وما هو نافع على الدوام يجيزه العلم في “التاريخ” ، ويحاول البعض أن يرجع إلى التراث ليأخذ منه كل شيء بدعوى أنه في التراث ، وهؤلاء لم يُعملوا العلوم في تصفية الموروث ، فعقولهم مثل آذانهم وأفواههم وبطونهم ، يسمعون أي شيء بدعوى أنه يُسمع ، ويشربون أي شيء بدعوى أنه يُشرب ، ويأكلون أي شيء بدعوى أنه يُؤكل ، لا توجد ضوابط ولا مستندات يمكن إعمالها في (التصفية) .
العقل المجتهد هو العقل الذي يُعمل العلوم في التراث لا التراث في العلوم ، وحين يُعمل العلوم في التراث يتوجه بها صوب الواقع فيُعمل المعرفةَ التراثية المستنتجة بالعلم من التراث في الواقع ، ولا نتكلم عن الذي يُعمل الواقع في كل هذه العناصر ، فهذا قلب للمنهج وللمعرفة ، وهو اتجاه له مدرسته ورواده ، وهو على كل حال ليس مجال كلامنا هنا .
أصبح معروفا اليوم أن الغلاة والمتطرفين هم من أنصاف العلماء ، والسبب راجع في كونهم لا يأخذون المعارف بأسبابها العلمية لأنهم لو فعلوا لخرجوا عن حد التطرف والغلو ، فالعالم يبقى طالبا للعلم الشرعي ، وكلما ارتوى وكان (ريانا ) من علوم الشريعة أخذ توازنه في الفهم والمعرفة ، والغلو والتطرف على أصناف ثلاثة : مفرد ومركب ومكعب ، وهو يرتقي بالتدرج من الأول إلى الثاني إلى الثالث.
الغلو المفرد يكون صاحبه على علم بحالة الغلو والتطرف ، فإذا غالى وتطرف علم بذلك وعرفه ، وحين تحاوره يعترف بذلك ، فهذا غلوه بسيط ، وعلاجه الحوار باللتي هي أحسن ، ودواؤه التعلم .
والغلو المركب هو الذي يكون صاحبه يغالي ويتطرف ولا يعلم بذلك ، وإحساسه الذاتي أنه على حق ، والحقيقة هي معه ، فهذا يكون الحوار معه صعبا للغاية ، ويحتاج إلى وقت وطول ملازمة ، والأمر يقتضي الدفع به إلى ساحة الصنف الأول حتى يتحول من المركب إلى المفرد ، ثم تدفع به خارج هذا الصنف ليتحول تدريجيا ، وهذا يحتاج إلى جرعات مكثفة وزائدة من الفهم والضبط والإحكام ، مع البيان والتوضيح والاستدلال.
أما الغلو المكعب فهو مثل الصنف الثاني ، لا يعلم بأنه في الغلو والتطرف ، ويبذل قصارى جهده في الدفاع عن قناعاته مع تخطيء وتجهيل الفكر الوسطي والمعتدل ، لا يتقيد بالعلوم ، فهو أعلى منها ، وفكره يتجاوزها ، وقد يصل به الرد إلى السب والشتم ، نسأل الله العفو والعافية .