بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير حيثيات بعض المسلكيات المعاصرة باسم الدين وفي الدين لا يتم إلا عبر فحص العلاقة بين ” العلم ” و ” العمل ” ، وفي فقرة من مقدمة أحد كتبي ذكرت بأن العلاقة بين العلم والعمل في الثقافة والمجتمع الإسلامي علاقة تباين حاد إذ أمسى العلم يشق طريقه لذاته ، والعمل يشق هو الآخر طريقه نحو ذاته ، ولم يعد العلم للعمل بل أصبح العلم للعلم والعمل للعمل ، وقد شعر البعض بالتقزز من هذه العبارة ، ربما لأنه لم يفهمها جيدا أو ربما لأنني لم أوضحها كما يجب ، لكن الممارسات المشينة والأعمال القبيحة باسم الدين أصبحت دافعا نحو تعميق النظر في المقولة ، وقد خلفت تلك التصرفات تفسيرات عديدة بعضها معقول وبعضها مرذول ، لكن دعونا ندلي ببعض التوضيحات في الموضوع.
كتبت في ركن المقالات من موقعي الأكاديمي مقالا مختصرا في موضوع ” البحث العلمي والمعرفة العلمية ” ، وقدمت في تلك الكلمة ثلاثة أصناف من المعرفة المحسوبة على الإسلام ، وهي: المعرفة العلمية ، والمعرفة الخرافية الأسطورية ، والمعرفة الارتجالية ، وسنحاول هنا أن نرتب على كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة ما يقابله ويلزمه من أعمال ، لأن كل عمل هو مسبوق بأفكار مُوَجِّهة ، كيفما كان حالها فهي تكتسي نوعا من العلم الذي يقودها ، وما نقوم به هنا هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من فهم بعض التصرفات ، ومن إدراك للمغزى الحقيقي لبعض المعاملات المستهجنة والتي تتم باسم “الدين”.
أولا: المعرفة العلمية تفضي بصاحبها إلى العمل المسدد بالعلم ، فالغرض من العلم الشرعي المستفاد بطريقة علمية هو العمل الشرعي المؤيد بالعلم الشرعي ، ولا خير في علم لا يقود إلى عمل ، المؤمن بالإسلام يدرك جيدا أن عمله برمته عبادة ، وهذه العبادة لا تتم بالجهل بل بالعلم ، لأن الله سبحانه وتعالى علم الناس كيف يعبدونه ، ولم يتركها بيد البشر للتبديل والتحويل فعبادة الله لا ليبرالية فيها ولا اشتراكية ، لا يمكن لأي كان أن يعبد الله كما يريد ، بل يعبده كما أراد الله تعالى ” فاستقم كما أمرت ” ، المؤمن ليس حرا أن يقول ما يشاء ، ويأكل ما يريد ، ويشرب ما يحب ، ويسمع كل شيء الخ ، بل حياته مخططة بقانون ، فمثلما أنه جزء من الكون المسير ب “قانون الطبيعة” فحياته أيضا وضع لها خالقها “قانون الشريعة” ، نخلص إلى أن العمل المسترشد بالعلم النافع يكون عملا نافعا .
ثانيا: المعرفة الخرافية الأسطورية ، هذا النوع من المعرفة تتولد عنه أعمال خرافية ، وهي الغالبة للأسف ، وتنتشر في صفوف “الأميين” ، فتعاطي السحر والكهانة والعرافة وأمور الشعوذة بمختلف أشكالها ، وشيوع بعض العادات الفاسدة في المقابر، وظلم المرأة بالاحتكار والاحتقار، و ظلم ذوي القربى والجيران ، وشيوع الزنا والربا والفساد بمختلف صوره إنما تقف وراءه ثقافة خرافية محسوبة على الإسلام وليست من المعرفة العلمية قطعا.
ثالثا: المعرفة الارتجالية ، وتسود عند “أنصاف المثقفين “، أولئك الذين يعرفون ولا يعرفون ، ويفهمون ولا يفهمون ، هؤلاء يلتقطون النصوص وبعض القواعد من هنا وهناك ، فمعرفتهم غير كاملة ، بها تشويه وتلفيق ، تُبنى عليها فهوم معوجة ، هذه المعرفة يتولد عنها ممارسة مشوهة ، وهذا ما نلحظه اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية ، فالجهل بالعلم الشرعي في دين الإسلام أوقع في ممارسة غير شرعية ، ويكون هذا الصنف قد أوقع نفسه في ضد ما أراد ، وهؤلاء على أصناف ثلاثة : صنف يجهل ويعترف بالجهل، وهو وإن أنشأ معرفة ارتجالية فهو في طور التعلم ، لأنه يشق الطريق نحو ” المعرفة العلمية” ، وصنف يجهل ولا يعترف بجهله ، وهو ينتج معرفة ارتجالية من درجة ثانية ، أما الصنف الثالث فهو مثل السابق إلا أنه يُجَهِّلُ من يعلم ، وهذا ينتج معرفة ارتجالية من الدرجة الأولى ، فإذا كان الحوار مع الصنف الأول لا بد منه في التعلم فإن الحوار مع الصنف الثاني يصعب في حين يكون مع الصنف الثالث متعذرا.
وبقدر ما أن المعرفة العلمية تحاول بث العلم الشرعي ليقتاد به الناس في العمل المشروع فهي في الوقت نفسه تنقد المعرفة الارتجالية ، وتحاول جادة أن تدفع بها نحو العلمية المحضة ، لأن الذي يقرب من المعرفة العلمية هو المعرفة الارتجالية ، أما الخرافية فلا يستقيم لها معنى بطريق النقد ، لكن تبقى أحكام القيمة هي الجاهزة في البيان مثل الحكم على أن هذا حرام ، وهذا مكروه ، وهذا واجب ، والكلام بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، ولا يصلح لهؤلاء غير خطاب الوعظ والإرشاد والتوعية والتوجيه إلخ ، وتبقى الممارسة الشعوذية باسم الإسلام موضوعا حيا للأبحاث السوسيولوجية والنفسية والأنثروبولوجية لأنها من صميم عمل المجتمع ، فكل الظواهر الشعوذية والخرافية هي ظواهر مجتمعية وإنسانية وجد البحث السوسيولوجي والسيكولوجي طريقا لها، فجعلها مجالا لبحثه، وأصدر بشأنها أحكاما شمولية وجارفة على أنها “من الدين” ، ولعل السبب يكمن في أن هذه الدراسات لا تميز بين حدود المعارف الثلاثة السابقة والتي تولدت عنها أعمال من نوع معين ، كل عمل يجب أن يُحاكم من منطلق دوافعه المعرفية .
نُشر على الموقع بتاريخ 5/1/2019
شكر الله لكم أستاذي الفاضل على هذه الإفادات العلمية، نعم فالعلم قرين العمل، فلا يجدي نفعا، ولايقي أثرا كل منهما بعيدا عن الآخر،،،، أثابكم الله تعالى وحفظكم.