العقيدة العلمية والعقيدة العملية
بسم الله الرحمن الرحيم ، وبعد:
فمن الحالات التطبيقية التي نقدمها بين يدي ما تقدمت الإشارة إليه في موضوعات سابقة التمييز بين ” العقيدة العلمية” و”العقيدة العملية”[1] ، حري بنا أن نُحدد المصطلحات المستعملة في الخطاب ، لا نعني ب “العقيدة العملية” الترجمة الفعلية والعملية للعقيدة العلمية ، فلو كان هذا موجودا ما كنا في حاجة إلى إثارة هذا الموضوع ، لكننا نعني عكس ذلك ، إننا نُميز بين عقيدتين بينهما تباين ، واحدة “علمية” توجد في بطون المصادر والكتب ، لها منهجها ومصطلحاتها وأعلامها البارزون ، هذا النوع من العقيدة لا يفهمه إلا الخاصة ، وهم أهلها ، أي العلماء، أولئك الذين تعلموا واجتهدوا ، وطالعوا وعرفوا ، فوقفوا على “عقيدة الإسلام” ، وعلى الفرق والمذاهب ، وفهموا الانتقادات العقدية داخل علم العقيدة ، أما العقيدة الثانية فهي عقيدة سواد الناس ، اكتسبوها بالفطرة والسليقة ، وعاشوا عليها بالجبلة والعادة ، توارثوها أبا عن جد ، عرفوا الله عز وجل ، وعرفوا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وصلوا إلى قبلة المسلمين بالقرآن الكريم ، وآمنوا بالجنة والنار والحساب والعقاب والملائكة وكل الغيب ، وكانت أركان الإيمان عندهم بالبداهة ، لكنهم لم يكونوا على علم تام بالذات والصفات ، وتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، والنبوات ، وتفاصيل الحساب والعقاب ، إلخ ، قد يقع بعض التباين بين العقيدة العلمية والعملية بسبب عدم العلم والمعرفة ، فما الحكم على من خالفتْ عقيدتُه العملية العقيدة العلمية ؟ ومن وقع في الكفر خطأ أو وقع جهلا هل يقع حكم الكفرعليه ؟ أسئلة كثيرة يمكن أن ندبج بها الإشكال العام ، التباين الموجود بين العقيدة العلمية والعملية موجود لكن التماس الأعذار للناس والترفق بهم وبإصدار الأحكام المجحفة في حقهم هو من العقيدة الصحيحة أيضا .
قد يقول قائل ولماذا هذا التفريق بين العقيدتين ولا توجد سوى عقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام ، نقول نعم ، لا توجد سوى عقيدة واحدة ، وهذه العقيدة هي التي نحاول أن ندفع الناس إليها متعلمين وغير متعلمين ، وهي التي نُعاين القضايا العقدية من خلالها ، فهي المنطلق والمعيار ، لكن الذي يصير العقيدة الواحدة عقيدتين هو نمط التباين الموجود بين “العلم” و”العمل” ، يلوم العلماء العامة في كون عقيدتهم العملية مخالفة للعقيدة الإسلامية الواحدة ، وينسى العلماء أن العامة لو تعلموا ودرسوا علم العقيدة وتاريخ هذا العلم ، ووقفوا على الفرق والمذاهب لوجهوا اللوم للعلماء على هذا التفرق المذموم ، وعلى هذا التشتت المحموم ، إن التباين قبل أن يكون بين العمل والعلم هو بين العلم والعلم ، فلا نغالي في اللوم.
العقيدة العلمية هي التي تُدرك بالعلم والطلب ، والعقيدة العملية هي التي اكتسبها الناس بالتربية ، وهي العقيدة البسيطة التي يسلكها الناس في حياتهم العملية وتتم من دون علم ولا معرفة نظامية ، العقيدة العلمية أهلها معدودون ومحسوبون ، والعقيدة العملية أصحابها كثر ، يشكلون سواد الأمة ، إنهم غالبية الناس من الناس ، فهم العامة من الناس.
حكى لي بعض العلماء المستنيرين أن واحدا من أهل العلم بالعقيدة كفر والده الأمي حين زعم بأن والده مات مشركا ، – نسأل الله السلامة والعافية – ، فنهره المستنير ، وطلب منه أن يدعو الله لأبيه بالرحمة والمغفرة ، ثم تطاول في ذكر أسباب ذلك بدعوى أن أباه لم يكن على علم ب ” العقيدة الإسلامية” ، يعني العلم ب “علم العقيدة” ، فهذا لم يستفد من عقيدة إبراهيم عليه السلام في الدعاء لوالده ، ولا من عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم في الدعاء لعمه وأمه وللناس ، وليس له منهج في الفهم ، ولا أخلاق في المعرفة ، فإذا كان هذا هو حكمه على والده فماذا عن الناس الآخرين ، هؤلاء خُلقوا قُضاة لا دُعاة ، أذهبَ فهمُهم للعقيدة أخلاقهم فأفلسوا ، كم من عالم بالعقيدة ليس له من العقيدة إلا الاسم ، وكم من أمي إيمانه قوي وأخلاقه عالية ، وحديث : ” إنما الأعمال بالنيات ” [2] واضح في الباب ، فالله عز وجل لا يأجر على العلم وحده ما لم يكن متبوعا بالعمل ، وفي الحديث “اعملوا ما شئتم بعد أن تعلموا فلن يأجركم الله تعالى بالعلم حتى تعملوا” [3].
يحلو لي أن أسوق قصة المرأة العجوز التي مرت يوما بالإمام فخرالدين الرازي وهو في الشارع وكان تلاميذه يمشون وراءه بالعشرات ما يقول كلمة إلا ويكتبوها ، فتعجبت العجوز ونادت على واحد من التلاميذ وقالت : ” يا بني من هذا ؟ ” فغضب وقال : ” أما عرفتيه ؟ ” ، هذا الإمام الرازي الذي عنده ألف وألف دليل على وجود الله تعالى ، .
هنا قالت العجوز قولتها المشهورة : ” يا بني ، لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما احتاج لألف دليل ودليل ، أفي الله شك ” ؟ ، فلما بلغ هذا الكلام الإمام الرازي قال : ” اللهم إيمانا كإيمان العجائز”[4] .
لم أجد لهذه القصة مستندا ، ويعضدها ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته بقوله : ( وكان مع تبحره في الأصول يقول : “من التزم دين العجائز فهو فائز” ) [5] ، وأيضا ما نقله الحافظ الذهبي في ترجمة إمام الحرمين أبي المعالي الجويني من أن أبا الفتح الطبري الفقيه دخل عليه في مرض موته فوجده يقول: ( اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة ، وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور) [6].
لا نُحمل الكلام ما لا يحتمل ، ولا نذهب به بعيدا في قضية الإيمان بل نُبقيه على ظاهره ، ولنستخلص منه آداب الاعتراف وأخلاق التواضع ، ولا يُفهم من كلامي هذا أنني أقدم عقيدة العامة على عقيدة العلماء ، ولا إيمان العامة على إيمان العلماء بل قصدت بيان أن عقيدة العامة وإن باينت صحيح العقيدة ففي بعض الحالات وليس بإطلاق ، وبجهل لا بقصد ، وهي خالية مما يظن البعض أنها من عقيدة الفرق المنحرفة المشهورة ، إنها العقيدة الفطرية التي لم تكدرها الآراء والفلسفات ، ولا الأفكار والنظريات ، ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم)[7] .
لم يوجد علم العقيدة للتراشق به ، ولا لتصنيف الناس من خلاله ، و لا للمباهاة به بل وُجد لدعوة الناس من خلاله ، وإرشادهم ، وتنويرهم ، والأخذ بيدهم ، وتصحيح أخطائهم ، وبيان صفاء العقيدة لهم ، وتيسيرها للناس باللغة التي يجيدون ، وبالأسلوب الذي يفهمون ، وليخرج المرشد والداعية من الخلاف العقدي الموجود في “علم العقيدة ” إلى العقيدة الواحدة التي عليها أهل البلد ، ومن التواءاتها الكلامية ومصطلحاتها الفنية إلى ما يفهمه الناس ، ولينطلق من العيب إلى الحقيقة لا من العيب إلى العيب ، لأنه بالأسلوب الأول يلتمس الأعذار وهو أسلوب الناجحين ، وبالأسلوب الثاني يحكم بالأقذار وهو أسلوب المتربصين ، بالأسلوب الأول يلتمس للداء الدواء ، بينما بالثاني يزيد في الداء داء ، ولا يصيب هدف النصيحة ، ” فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر”[8]
تلك هي أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك هو أسلوبه في دعوة الناس وتربيتهم بعقيدة الإسلام ، وهو ما بينته هذه الآية الكريمة ، ومن منطلق ذلك نقول بأن “علم العقيدة” في حاجة إلى خمسة أساليب :
أ- أسلوب في الفهم ، وهذا الفهم يُبنى على منهج علمي رصين ، لأن المنهج السديد يؤدي إلى الفهم السديد ، والمنهج المعوج يؤدي إلى الفهم المعوج .
ب- أسلوب في دعوة الناس إلى مذهب عقدي واحد ، وهو ما عليه أهل البلد ، خروجا من الخلاف ، ودرءا للفتنة ، وتماشيا مع المنهج المشار إليه ، وهذا يعد من الثوابت .
ج- أسلوب في تلقين المعارف العقدية للطلبة والباحثين ، بتبسيط الأسلوب وتوضيح الأفكار بعيدا عن الأساليب الفلسفية ، والإغراق في القضايا الكلامية ، ويبقى الأمل معقودا على المنهج الذي تمت الإشارة إليه.
د- أسلوب في تعليم العوام ، فللعوام الحق في المعلومة العلمية ، لكن يجب أن لا تتجاوز المعلوم من العقيدة بالضرورة ، ومما له صلة بالعبادة والأركان ، بعيدا عن التفاصيل والجزئيات التي لا تحتملها عقولهم ، لأن عقولهم إذا احتملت أوَّلتْ ، وإذا أوَّلتْ وقعت في نقيض المقصود ، وفي الحديث الصحيح : ( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) .
هـ أسلوب في العمل بالعلم ، أي ربط الناس بالعلم ، فالله سبحانه وتعالى جعل دينه علما ، لأنه لا يعبد إلا بالعلم ، ولذلك لا يتصدى لهذا الموضوع في مجال التعليم والتلقين إلا العلماء .
فاللهم يسر لنا سبل الفهم ، وزينا بالحلم والعلم ، والحمد لله رب العالمين.
نشر بالموقع بتاريخ 9/6/2019
……………………………………………………………………………………………
[1] -استفدت هذا التمييز من كلمة السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في تنصيب السيد رئيس المجلس العلمي بإقليم شيشاوة .
[2]– حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب بدء الوحي ، ينظر الفتح 1/9 رقم الحديث9 ، طبعة دار الفكر.
[3]– أخرجه الدارمي في السنن من حديث معاذ بن جبل موقوفا ، ص48 رقم الحديث 266 ، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه ، دار ابن حزم ، الأولى .
[4]– نسب مثل هذا الكلام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو غير صحيح ، واشتهرت القصة العجوز عن الفخر الرازي (ت606هـ) وهو أحد أعلام الأشاعرة ، وقد نسبها غير واحد إليه .
[5]– أنظر لسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني 6/319 ترجمة رقم 6017 ، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبوغدة ، مكتبة المطبوعات الإسلامية ، الأولى.
[6]– سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي ، 18/474 ترجمة رقم 240 ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ونعيم العرقسوسي ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى ، وهي في طبقات الشافعية للتاج السبكي 5/191 .
[7] -سورة الروم الآية 30.
[8]– سورة آل عمران الآية 159.