الدرس السادس:
الركن الثاني من أركان الحج “الوقوف بعرفة”.
فنقدم الدرس السادس من سلسلة دروس تأطير حجاج بيت الله الحرام ، فبعد أن تكلمنا في الدرس السابق عن الركن الأول وهو الإحرام نتكلم هنا عن الركن الثاني وهو الوقوف بعرفة.
1- دليل وجوبه وركنيته:
قوله تعالى : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم)[1] ، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله : ( الحج عرفة) [2]، وقوله صلى الله عليه وسلم :(لتأخذوا عني منسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه )[3] .
2- واجبات الوقوف بعرفة :
أ- تقدم في الآية ذكر ” عرفات” ، وفي الحديث ” عرفة ” فما الفرق بينهما ؟
” عرفات ” مفهوم مكان ، و” عرفة ” مفهوم زمان ، في إشارة إلى اليوم وهو اليوم التاسع من ذي الحجة ، ودلالة ذلك أن الحاج يجب أن يكون بذاته في الزمان والمكان ، لا نيابة في الوقوف ، ولا وقوف في غير المكان ، ولا وقوف في غير يوم عرفة ، فمن وقف في غير المكان فلا وقوف له ، ومن وقف في غير يوم الوقوف فلا وقوف له ، وعرفات معروفة بعلامات مكتوب عليها ” بداية عرفات ” ، وأخرى مكتوب عليها ” نهاية عرفات” ، أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرفة )[4] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الحج عرفة) يعني أنه “يوم الحج الأكبر” ، فمن فاته هذا اليوم فاته الحج كله.
ب- يجب الجمع في الوقوف بين الليل والنهار ، وإذا تعذر ذلك ففي جزء يسير من الليل ، يعني أن الحجاج يخرجون في اليوم التاسع بعد الشروق ويقفون إلى غروب الشمس ،أي يجمع النهار مع جزء من الليل بعد الغروب ، دليل ذلك قول حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال : هذه عرفة ، وهذا هو الموقف ، وعرفة كلها موقف ، ثم أفاض حين غربت الشمس)[5] .
3- فضائل هذا اليوم:
لهذا اليوم فضائل عديدة تحددها الآثار الصحيحة المرفوعة ، منها :
أ- قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء؟ ) [6] .
ب- قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى هذا البيت فلم يرفت ولم يفسق رجع كما ولدته أمه) [7].
وهذا التشبيه بني على قرائن منها :
-أن المولود يولد من بطن أمه على الفطرة ، لا ذنب عليه ، كذلك الحج المبرور ، ومنه الوقوف بعرفة فالله تعالى يعتق الرقاب من النار إلا ما كان بينهم ، فشبه صاحب الحج المبرور بالمولود من هذه الناحية.
-أن المولود في سابع مولده يعق عنه ويسمى ، كذلك الحاج فإن أهله يسعدون بعودته ، ويتبركون بمقدمه ، ويرجع بلقب ” الحاج” ، ومن الناس من يسافر معه هذا اللقب طيلة حياته ، وفيه فوائد ما لم يكن مقرونا برياء وسمعة.
– يعتبر هذا اليوم بالنسبة للحاج من أفضل الأيام التي مرت به منذ أن ولدته أمه ، فعليه أن يستغل أوقاته جيدا.
ج- يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ، ولا أحقر ، ولا أدحر ، ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذلك إلا لما رآى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام ) الحديث [8].
3- سنن الوقوف:
أ- تسن التلبية والتكبير والتهليل في الذهاب من منى إلى عرفات في يوم عرفة ، يعني أن الماشي من منى إلى عرفات يجب أن يملأ وقته ، سأل محمد بن أبي بكر الثقفي أنس بن مالك وهما غاديان من مكة إلى عرفة : كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : كان يهل المهل منا فلا يُنْكَر عليه ، ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه ) [9].
أ- يستمع الحجاج إلى خطبتين للإمام بمسجد نمرة ، وهما خطبتا وعظ وتوجيه وإرشاد ، يعلم فيهما الإمام الناس ما بقي عليهم من مناسك ، ثم يؤذن المؤذن وتقام صلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا ، ويكون الجمع جمع تقديم.
ب- الوقوف بجبل الرحمة من السنن المندوبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بها ، ولم يأتي الأمر في ذلك وجوبا.
ج- الوقوف على طهارة إن أمكن ذلك لعظم المشهد ، فهو من السنن المندوبة ، وهو غير واجب رفعا للمشقة ، سئل مالك هل يقف الرجل بعرفة أو بالمزدلفة أو يرمي الجمار أو يسعى بين الصفا والمروة وهو غير طاهر فقال : ( كل أمر تصنعه الحائض من أمر الحج فالرجل يصنعه وهو غير طاهر ، ثم لا يكون عليه شيء في ذلك ، ولكن الفضل أن يكون الرجل في ذلك كله طاهرا ولا ينبغي له أن يتعمد ذلك)[10] .
د- الوقوف راكبا أو جالسا ، ما فعله الحاج هو يجزي ، وهو بحسب حال الحاج وضعه ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على بعيره ، ولم يكن صائما ، سئل مالك عن الوقوف بعرفة للراكب أينزل أم يقف راكبا ؟ فأجاب : ( بل يقف راكبا إلا أن يكون به أو بدابته علة فالله أعذر بالعذر) [11].
ه- يسن الدعاء إلى الله عز وجل والتضرع إليه إلى غروب الشمس ، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الدعاء الدعاء يوم عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له)[12] .
كما يسن التهليل والتكبير والإكثار من ذكر الله تعالى ، وقراءة القرآن ، في هذا اليوم ، وفي أيام التشريق في منى الحادي عشر ، والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة.
4- حِكم الوقوف:
أ- لا تظهر الحكم والمعاني السامية للوقوف بعرفة إلا بفهم دلالات الألفاظ ، ف”الوقوف بعرفة ” يعني الوقوف بالموقف المحدد للوقوف ، ويكون في عرفات ، وهي مكان الوقوف ، والوقوف هنا لله تعالى ، وأمام الله تعالى ، وهو مشهد مصغر من الوقوف بين يديه يوم المحشر ، يوم يحشر الناس على صعيد واحد .
ب- ويتحكم في وقوف الحجاج هيئة الوقوف ، ولباس الوقوف ، ولوازم الوقوف ، بحيث يتجرد الحاج من كل الشواغل : مثل الفرش والطبخ واللباس والملاهي ليتفرغ لمناجاة ربه في هذا اليوم ، وهو اليوم الذي سماه الله تعالى ب ” يوم عرفة” ، وهو يوم ليس كسائر الأيام ، إنه يوم مميز في مناسك الحج ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الحج عرفة).
ج- لا بد من التحلي بإحساس الوقوف ، وبالشعور به ، لا بد أن يكون له شعور فريد ، يلين قلبه ، ويقشعر جلده ، وتدمع عيناه ، وترتعد جوارحه ، ويوجه فكره وعقله وقلبه إلى ربه ليغفر له ، ويصلح حاله ، ولا يكون الدعاء قاصرا عليه بل يدعو لأهله وآبائه وأولاده والناس أجمعين.
د- في هذا اليوم تتجلى عظمة الإسلام في توحيد الناس ولم شملهم ، كلهم على اختلاف ألوانهم وألسنتهم يلبون تلبية واحدة ” لبيك الله لبيك ” ، واقفين على هيئة واحدة ، متوجهين إلى قبلة واحدة .
ه- في هذا اليوم تتجلى رحمة الله تعالى وعفوه وكرمه فيجعل الله سبحانه وتعالى حجهم مبرورا ، وسعيهم مشكورا ، وذنبهم مغفورا .
5- الأخطاء التي يقع فيها الواقفون:
– الخصام والشجار بين الحجاج على الحافلات ، ثم في داخل الحافلات على المقاعد ، ومن الحجاج من يحجز مقعده في الحافلة بعد الظهر خوفا من امتلاءها بعد الغروب ، الناس واقفة تتخشع والبعض يقضي وقته في الشجار أو النوم على الكراسي في انتظار الإقلاع .
– عدم التزام الحجاج مع الجماعة التي ترافقهم ، فيتشتتون يمينا وشمالا ، يتجولون بين الناس فيضيعون الوقت الذي هو أغلى من كل شيء في هذا اليوم المبارك .
– النزول والمبيت قبل الوصول إلى المزدلفة ، وللمزدلفة حدود مثل عرفات يجب التقيد بها ، فلا بد من دخول المزدلفة والنزول بها ، ثم الصلاة فيها جمعا وقصرا ونعني بها صلاة المغرب والعشاء.
– التقاط حصيات الجمرات من دون تكلف في التقاطها كلها ، بل جرت السنة على التقاط سبع حصيات والباقي بمنى ، ومن التقطها جميعها ، وهو قادر على حمل كيس من الحجارة إلى منى فلا حرج عليه .
نشر على الموقع بتاريخ 20/7/2019
…………………………………………………………………………………………….
[1]– سورة البقرة الآية 189.
[2]– أخرجه أبو داود في المناسك ، باب من لم يدرك عرفة رقم الحديث 1949، والترمذي في الحج ، باب من جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج رقم الحديث 889.
[3] – أخرجه مسلم في الحج ، باب استحباب رمي الجمرة العقبة يوم النحر راكبا وبين قوله صلى الله عليه وسلم ” لتأخذوا مناسككم” ، 2/943 رقم الحديث 1297.
[4]– الموطأ ، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة ،2/337 رقم الحديث 894.
[5]– أخرجه الترمذي في الحج ، باب ما جاء ان عرفة كلها موقف.
[6]– حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه مسلم في الصحيح ، كتاب الحج ، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة2 /982 رقم الحديث 1348.
[7]– تقدم تخريجه .
[8]– أخرجه مالك في الموطأ ، في الحج ، وانظر تعليق الحافظ ابن عبد البر عليه في التمهيد 1/115.
[9]– أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الحج ، باب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات في يوم عرفة ، 2/933 رقم الحديث 1285.
[10]– الموطأ بشرح الزرقاني ، باب وقوف الرجل وهو غير طاهر وقوفه على دابته ، 2/339 رقم الحديث 267.
[11]– المصدر السابق.
[12]– أخرجه مالك في الموطأ ، باب جامع الحج ،أنظر الموطأ بشرح الزرقاني 2/395-396 رقم الحديث 974.
Scroll To Top