تسجيل ناذر لجاك بيرك ، المستشرق الفرنسي المتخصص في السيوسيولوجيا ، كانت شواهد بيرك هي إنتاجاته العلمية والمعرفية ، وكانت جامعته التي تخرج منها هي المجتمع المغربي ، وبذلك تميز جاك بيرك عن السوسيولوجيين الاستعماريين من أمثال روبير مونطاني وغيره ، دخل جاك بيرك المغرب في خدمة عسكرية فرنسية فتحول إلى سوسيولوجي من الدرجة الأولى ، لم يكن سوسيولوجيا في فرنسا ولكنه أصبح سوسيولوجيا بل أستاذ السوسويولوجيا وشيخها في المغرب ، راكم تجربة السنين في المغرب ، أتقن العربية ،وتكلم باللهجات ،واطلع على خصوصية الحضارة المغربية ذات البعد الديني الإسلامي والعربي والأمازيغي ، لاحظ بأم عينيه كيف تُبنى النخبة في المغرب ، وكيف تتكون معرفيا ، وفي هذه المحاضرة كان صريحا وواضحا.
هي جلسة ناذرة يتوسط فيها بيرك علمين مغربيين من أعلام السوسيولوجيا في جامعة محمد الخامس بالرباط الدكتورعبد الله حمودي عن يساره ، والدكتور محمد جسوس عن يمينه ، ما يلفظ بيرك من قول في الموضوع إلا ويدونه محمد كسوس ، وكعادته حين يتفاعل الدكتور محمد جسوس مع الأفكار كان يحك جبهته بيده ، عهدناه هكذا منذ أن عرفناه رحمه الله ، ولكلِّ أستاذٍ من الأساتذة البارزين طريقته في الإلقاء وفي التفاعل مع الأفكار وباختصار شديد كان الأستاذ محمد جسوس هنا متفاعلا.
استهل بيرك كلمته بالكلام عن كلمة ” ثقافة” ، ويرفض أن تكون الكلمة ترجمة ل culture ،أو العكس، ويعطي للثقافة معنى حدده بأن المثقف هو الذي يقبل لغة الآخر، فرنسية كانت أو إنجليزية، وهو الذي اكتسب تعليمه وترقى في علوم غربية ويعطي النموذج بطه حسين ، بخلاف مشايخ الأزهر وعلماء القرويين فلا يدخلون في المصطلح ، فهم “علماء” أو “فقهاء” ، ويعطي مقابل كلمة culture “حضارة “، ” الثقافة” كلمة نخبوية ، المثقفون طبقة علوية تتميز عن طبقة دنيا، ويستخدم جاك بيرك مصطلحات مثل كلمة “الفوقانية” و”التحتانية” ، وما هو ” خارجي ، جواني ” و ” داخلي ” منحوتة من العربية في التعبير عما يريد، وهي ذات المصطلحات التي استخدمها الدكتور عبد الله العروي ، أما الدكتور محمد عابد الجابري فأضاف شيئا آخر هو مصطلح ” التراث” ، وهو مصطلح خصوصي لا نجد ما يقابله في الفرنسية ، فإذا تُرجم ب culture فإن مقابل culture في العربية هي ” الثقافة” ، لكن جاك بيرك يجزم بالقطع أن الترجمة الأنثروبولوجية ل culture هي ” الحضارة” ، لأن الكلمة نخبوية ، ثم ينتقل إلى بيان معنى النخبة ، النخبة حسب تعبيره هي الطبقة المثقفة بالثقافة الغربية ، وهي مع ذلك لا تفترق عن طبقة الشعب ، فإذا انفردت أو انعزلت لم تبق نخبة ، الخطر الأكبر هو حين تنعزل أو تنفرد النخبة عن طبقات الشعب ،ولا أدري لماذا استعمل هنا كلمة ” الشعب” ولم يستعمل المصطلح السوسيولوجي المعروف وهو” المجتمع” ، أظنه مال عن السوسيولوجيا إلى السياسة ، لأن السياسة أبلغ في التعبير من السوسيولوجيا ، كلمة الشعب كلمة سياسية ، وعلى كل حال فهو يحذر من الانعزال و الابتعاد ، ويحددهما إما ب “الاغتراب” وهو الأخذ بالثقافة الغربية، أو بالسفسطة وتجنب المخالطة الاجتماعية، لا يجب على “النخبة” أن تنفرد عن “الأمة ” ، إنه خطر عظيم للشعب ولما يراه الشعب ويشعر به انه حضارته ، فالشعب له شعور كبير في ارتباطه بحضارته، ونص على أن المغرب له خصوصية إسلامية ، ونخبته يجب أن تبقى على صلة مع هذه الخصوصية ، ولكي يميز بين ” العلماء” و ” المثقفين” أعطى مثالا بالشيخ أبي علي الحسن اليوسي الفقيه المالكي المشهور وبكتابه ” القانون” ، وحكى بيرك تجربته مع هذا الكتاب ، فقد استغرب من فقيه من علماء القرويين يجعل من كتابه موسوعةً تشمل مجموعة من العلوم مثل الرياضيات وغير ذلك ، كيف لرجل ينتمي إلى القرويين يتكلم في الرياضيات ، وما كتبه اليوسي لم يستطع أصحاب الشهادات العليا من الذين سماهم ب ” النخبة” أن يقرآوا منه سطرا واحدا، وقد عاش تجربة مع واحد من هؤلاء، ومن حسن حظ المتكلم عليه أنه لم يسمه ، وهو من الحاصلين على أرقى الشواهد ، وما استطاع أن يقرأ سطرا واحدا من كتاب مطبوع طبعة حجرية قديمة وبالخط المغربي ، واليوسي مثال واحد من علماء القرويين وجامعة ابن يوسف الذين كانوا موسوعات علمية ، صنفوا إلى جانب العلوم الشرعية في الرياضيات والفلك والهندسة والمنطق ، ولم يكن هذا تطفلا منهم على هذه العلوم كما يتصور البعض ولكن حاجة المجتمع والعلوم الشرعية إليها كانت ماسة .
هذه هي طريقة جاك بيرك في قراءة الكتب القديمة والمخطوطات إذا التبس عليه شيء سأل أهل العلم عليه ، وقد وقعت له تجارب في مدينة مراكش من هذا النوع حكاها لي العلامة أحمد الشرقاوي إقبال قبل موته رحمه الله.
النقطة القاتلة – كما يقول- هي لومه للنخبة المثقفة ، فلو كانت مثقفة ومتحضرة ما تركت ثقافتها الأصيلة ، ثقافة الهوية والذات أو بلغة جاك بيرك ” ثقافة الشعب” وهي الحضارة العربية والإسلامية ، وشخَّص “أزمة المثقفين” في هذه النقطة بالذات ، ولا أرى الكلام في أزمة المثقفين بالصيغ التي تم بها إلا مستوحى من استعماله هذا ، لقد تكلم الدكتور عبد الله العروي في أزمة المثقفين في نفس الموضوع لكن بطريقته وباللغة الفرنسية ، كما تكلم في الموضوع نفسه الدكتور محسن عبد الحميد ، وهو أستاذنا وأستاذ الأجيال ، عراقي الأصل، دخل إلى المغرب أصوليا وخرج مفكرا، تماما كما فعل المغرب بجاك بيرك نفسه ، يقول جاك بيرك في هذه المحاضرة – وما قاله هنا بسطه في كتابه l’islam au temps du monde ، الإسلام في زمن العالم _ ( لو كان إنسانا متحضرا ما ترك حضارته الأصيلة ، الحضارة العربية الإسلامية لاكتساب الثقافة الفرنسية والإنجليزية ، فهو تركها تماما لاكتساب حضارة أخرى ، فما معناه حين رجوعه إلى بلده ، فهو عديم أو شبه عديم) ، هكذا بلسان مستعرب ، ونفس هذا الكلام قاله إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق ، وقد قمنا بمناقشته ومناقشة جاك بيرك في عملنا الموسوم ب ( الاستشراق والعلوم الإسلامية بين نقلانية التأصيل وعقلانية التأويل) .
لماذا قارن بيرك بين ” العلماء ” و ” النخبة” من هذه الجهة ؟
الواضح أن ” العلماء” يمكنهم أن يجمعوا بين العلوم الشرعية والعلوم الأخرى من دون حرج ، بخلاف ” النخبة” فهم يميلون إلى الثقافة الغربية وينسوا ثقافتهم الأصيلة ، ثم إن ” العلماء” لا ينعزلون عن المجتمع ولا يبتعدون عنه بخلاف “النخبة” ، وهو الأمر الذي حذر منه جاك بيرك .
نستطيع أن نجزم بأن جاك بيرك كان واضحا فيما يقول، صريحا في بث أفكاره ، لا ينافق ، ولا يُسخر العلم والمعرفة في المزايدات الشخصية ، رجل تعالى بصراحته ، لقد ترجم القرآن الكريم وقضى في ترجمته زهاء 16 سنة تقريبا ، فلما سُئل عن عدم إسلامه قال: ( أنا أنصح الشرقيين أن يُحافظوا على خصوصيتهم ، فلِمَ لا أحافظ على خصوصيتي) .
حظي جاك بيرك بعناية أكاديمية في جامعة القاضي عياض ، وبخاصة في كلية الآداب بمراكش ، فقد كتب عنه الدكتور محمد بوغالي عميد الكلية السابق كتابا بالفرنسية بعنوان ( Jaque Bérque ou la saveur du monde arabe) ، وقداحتفينا بالكتاب لحظة صدوره في لقاء علمي تم بالكلية بتاريخ 15 مارس 1996 بقاعة المحاضرات بالكلية ، وقد حضره عدد كبير من أساتذة الكلية ، وقد عيَّنْتُ لجنة من الطلبة الباحثين لترجمته إلى العربية وصلنا فيه إلى النصف تقريبا ، لكن المشروع توقف لظروف قاهرة ، والكتاب عُرب بعنوان( جاك بيرك أو نكهة العالم العربي) ، ثم تولَّى أخونا الأستاذ حسن مجاهد – وقد أحيل الآن على التقاعد- تسجيل دكتوراه الدولة في موضوع في موضوع( سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك)،وهو الآن في كتاب مطبوع .