التحديات التي تواجه الطفولة في المجتمع المعاصر
إنجاز د. محمد خروبات
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
نريد ب ( التحديات) مجمل المشاكل والعراقيل التي تعترض سبيل نشأة الطفولة وتربيتها، فتضيق على حياتها ووجودها فتنازعها الغلبة وتباريها(1)
ونريد ب( الطفولة) المرحلة التي يعيشها صغير الإنسان سواء أكان طفلا أم طفلة من دون أن نخفي المعاناة التي يكابدها أطفال المسلمين بصفة خاصة.
وأساس هذا العمل محاضرتان ألقيتا في الدائرة العلمية للبحث في العلوم الإسلامية، الأولى كانت حول التحديات التي تواجه الطفولة بصفة عامة، تحديات متنوعة ومتعددة ، ألقيت بتاريخ11 نونبر من سنة 2000 م، والثانية تخصصت في التحديات التي تواجه الطفولة في المجتمع المغربي المعاصر، ألقيت بتاريخ 17 فبراير من سنة 2001 م وقد جمعتا في هذا البحث الذي نقدمه للنشر في مجلة الدائرة الغراء الموسومة ب( بصائر الرباط)، نفع الله بها.
1– معنى الطفل والطفولة.
لابد من معرفة الطفل قبل الكلام عليه، فالطفل لغة : هو الصغير من كل شيء، ويشمل الذكر والأنثى(2) وكل البشر يبدؤون حياتهم أطفالا، لذلك فالاهتمام به هو اهتمام بالأسرة وبالمجتمع البشري.
الطفل هو النواة الصلبة للمجتمع البشري، لأجله تنشأ الأسرة، وله تتأسس جميع المرافق الحيوية في المجتمع من صحة وتعليم وتربية، والمجتمع الواعي بالمسؤولية هو المجتمع الذي يدرك أن الطفل هو مستقبل الوجود الإنساني، وأن تقدم مجتمع أو تخلفه رهين بمدى اهتمامه ورعايته للطفل، والمجتمع الذي يهمل أطفاله ليفكر في كباره فقط هو مجتمع ينتهك حقوق الإنسان بالمعنى القانوني للكلمة، والمجتمع الذي يؤذي أطفاله بأي شكل من الأشكال، ولا يفكر فيهم يحكم على نفسه بالتخلف وبالموت في فترات لاحقة.
الطفل إنسان ، وهذا الإنسان يمر من مرحلتين : المرحلة الجنينية، ومرحلة الطفولة.
المرحلة الأولى : هي مرحلة ما قبل الولادة ، وهذه المرحلة يطلق عليها القرآن نعت (الجنين)، في قوله تعالى : (هو أعلم بكم إذ انشأكم من الارض وإذ انتم أجنة في بطون أمهاتكم”(3)
والمرحلة الثانية هي مرحلة الطفولة، تبدأ من الميلاد وتنتهي عند البلوغ، قال تعالى : “هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا”(1)، وقال تعالى: “ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا”(2) .
2– تحديات في المرحلة الجنينية:
الطفولة هي مرحلة لاحقة تتأسس على المرحلة الجنينية الأولى، إذا لم يسلم الطفل في هذه المرحلة فإن ذلك ينعكس على حياته ووجوده سلبا، ولا ندري ماذا يقول الكبار اليوم أمام التقديرات التي تشير إلى أن ما بين 30 و 40 مليون عملية إجهاض يتم إجراؤها على صعيد العالم كل يوم، ويمس هذا التقدير بطون النساء في العالم الإسلامي بنسبة مخيفة جدا.
فالإجهاض يشكل انتهاكا صارخا لحق الطفل في الحياة، حقه كإنسان حي وككائن بشري له الحق في الوجود، وعلم الأحياء الحديث يثبت أن الحياة لا تبدأ عند الولادة وإنما تكون منذ لحظة الحمل به (3).
لا نتكلم عن تقنيات التشخيص بالأشعة لمعرفته، والتعرف عليه قبل الولادة، فهذه أصبحت حقا مكتسبا للوالدين بفعل تطور الطب النسائي والتوليدي، لأن هذا يعين-إن سلمت النية- على وضعه في البطن من جهة سلامته في استيعابه واحتوائه، ومتابعة تقلباته ونموه وما يخصه وينقصه من المضادات الحيوية والفيتامينات المساعدة على اكتمال نموه الطبيعي، وللطب أن يقول كلمته هنا إذا كان يقدم تقنياته العلاجية لاحترام الكرامة الإنسانية و إنقاذ الحياة البشرية، وتحسين الوضع الصحي، أما وأن تتحول العملية إلى “التجسس” عليه بنية معرفة جنسه إذا كان من الجنس غير المرغوب فيه أجهضوه، فهذا مما لا يمكن التسليم به شرعا وقانونا، فالشرع الإسلامي يحرمه و(بعض) القوانين الوضعية تعاقب عليه.
وتأتي بعض النظريات الممسوحة باسم “الوعي الطبي” في ظاهرها أنها تنشر “الوعي الأسري” لكنها في الخفاء- أو هكذا تظهر – تعكس نية إبادة العنصر البشري حين يتصور الإجهاض بمثابة “تنظيم للنسل”، والواقع أن هذا مخالف لحقيقة “التنظيم” ومباين لحقيقة “منطق العقل”، فالتنظيم يكون في أشياء موجودة، والإجهاض هو عملية إبادة وإزالة، والذي لا يقبله منطق العقل هو أن نطلق على إبادة شيء معين “تنظيما”، فحينما نجهض لا نكون أمام “ولادة” ولا أمام “تنظيم”.
وتتعدد مظاهر “التنظيم” حين تجري تقنيات متنوعة على التناسل البشري، من ذلك عملية الإخصاب في الأنبوب، حيث تخصب عدة بويضات في المختبرات الطبية ليختار منها البويضة التي تتمتع بأكثر إمكانية في البقاء في حين يتم نبذ البويضات الأخرى، وقد تخصب بويضة امرأة بمني رجل آخر، قد تكون هي من الشرق وهو من الغرب، هي على دين الإسلام وهو على دين غيره، وتمكنت المختبرات حاليا من جمع أصناف البشر في مختبر واحد بفعل تجميد كميات هائلة من السائل المنوي، وإيداعها في بنوك تشغل في الوقت المناسب، وقد تستخلص من رجال ماتوا بسنين، وفتحت هذه العملية الباب لعملية طبية أخرى تدعي التيسير والتسهيل، هذه العملية هي عملية تقنيات أطفال الأنابيب.
لقد فسح الطب المجال لمثل هذه العمليات للعبث بالحياة البشرية وبأعضائها حيث تصبح الأجنة مجالا للتجارب العلمية، تنتج أطفالا لغرض بيع أعضائهم مما يدفع بالطفولة إلى طرق قاسية تحولت أعضاؤها البريئة إلى مادة للبيع والشراء، ولا نتكلم عن “أنواع الإخصاب الاصطناعي المتجانس”، فهو وإن جرى على الحيوان لأسباب إقتصادية فإنه مضر بالنوع البشري لأسباب شرعية وإنسانية وأخلاقية، ولا سيما للأسرة التي تنشأ على لقاء شرعي بين رجل وامرأة بموجب عقد الزواج بينهما لضمان نشأة النسل البشري نشأة صحيحة سوية وسليمة، ثم إنه هدم لعاطفة الحب والرحمة والألفة التي تنشأ في رحاب الأسرة، وقبل هذا وبعده هو اعتداء على حق الطفل، فمن حقه أن يحبل به ويحمل في رحم والدته لا في رحم بالوكالة، ومن حقه أن يولد إلى هذا العالم وهو منسوب لأب وأم بنسب معقول وشرعي.
إن القوانين التي تسمح بهذا النوع من العمليات من دون ضرورة إنما تساعد على قتل الإنسان وتشويه صورته، وطمس معالم كرامته، فالإجهاض مثلا هو قتل لنفس بريئة من كل تهمة، نفس مجردة من كل الوسائل والإمكانات للدفاع عن حقها، وهذا يتم أمام مرأى ومسمع العالم اليوم، بل يتم في حضيرة الدول الرافعة لشعار حقوق الإنسان ؟ !
وقد ولد العلم ظاهرة طبية أخرى وهي الحمل في رحم بالوكالة، وهذا متنوع الأشكال، كأن يؤخذ حيوان منوي من رجل ويلقح ببويضة امرأة ثم ينقل إلى رحم امرأة ثانية، وهذا لا أحد يشك في تحريمه، لكن إذا كان رجل واحد له زوجتان واستأجرت واحدة رحم الأخرى، فمن حيث الظاهر هذه حالة لا تبنى عليها مشاكل من حيث النسب والحضانة والإرث لأن الأب واحد، والتراضي بين الزوجتين قائم تحت رعاية الزوج، لذلك بادر المجمع الفقهي في مكة بإباحتها، لكنه بعد مضي مدة أصدر فتوى ثانية بتحريمها لما ثبت له أنها تولد أضرارا تتمثل في مشاكل عويصة الحل، من أكبرها:
-أن الزوجة المستأجرة قد ترفض تسليم المولود إلى أمه صاحبة البويضة، وفي هذه الحالة يقع نزاع عائلي بين الأميـن ينعكس عليه اضطراب في النسب، واضطراب في الإرث، واضطراب في التربية، ناهيك عن حصول القطيعة في صلة الأرحام، وقد تتطور إلى عداوة لا أحد يتنبأ بمخاطرها.
– ومن المشاكل التي تتولد عن هذا، التشجيع في استئجار الأرحام، فالمرأة المعاصرة، والسيدات المترفات اللواتي يردن المحافظة على بطونهن وأثدائهن سيعمدن إلى استئجار أرحام غيرهن من الخادمات والفقيرات بمقابل مالي، ومثل هذا سيكثر لا محالة وسيفتح فسادا عريضا مثل الزهد في الحمل، وستتفكك أواصر الأسرة المسلمة، وهي الأسرة التي لها مقومات ثابتة، ودعائم رئيسية أقواها صلة النسب وحاجة الطفل إلى أن تحبل به والدته الأصلية ليتنفس مما تتنفس، ويقتات مما تقتات، ويحس بما تحس.
هذا إذا كانت العملية داخل أسرة قائمة على علاقة زوجية، وبين الأطراف ميثاق، أما في الغرب فتتم بالاستئجار المالي، وقد تولد عنها مشاكل كبيرة للمجتمع الغربي نفسه، فقد امتنعت امرأة
من تسليم الولد لصاحبة البويضة ورفعت القضية إلى القضاء فقضى فيها بتسليم الولد لصاحبة البويضة، وفي بريطانيا تطلب الأمر إجراء عملية جراحية للجنين في البطن لمرض ألم به فرفضت
المرأة الحامل بالوكالة شق بطنها لمعالجة الطفل لأن العقد لا ينص على ذلك فمصير الطفل أن يولد بعاهته … !
فليجب الطب عن هذه الحالة : إذا ولد الطفل مشوها فما موقف الأبوين الأصليين منه، فالتي حبلت به لا تريده، والأبوان لا يطيقانه، وقد وقعت حالات تنكر فيها الأبوان للولد ذي العاهة، ثم ماذا تفعل به من ولدته؟ أتمسكه على هون أم تلقي به في الشارع أم تغرقه في اليم؟ !
هذه حالات وإن كانت ناجحة علميا على مستوى الطب فهي تولد مشاكل اجتماعية ونفسية ودينية، وتبقى هذه المحاولات من سخف الطب ومن سفه العلم.
آسفين جدا لبعض دولنا الإسلامية كيف أنها لم تتدخل بأحكام الشريعة الإسلامية في هذا النوع من الممارسات الطبية لتعيد البحث العلمي إلى إطاره الأخلاقي الذي يصونه ليكون عملا علميا نافعا وشريفا، ويصونه ثانيا من الانفلات عن الجادة حتى لا يضر بالحياة البشرية.
3– تحديات في مرحلة الطفولة
حين يزداد الطفل إلى هذا العالم بعد أن واجه نوعا من التحديات المرتبطة بالمرحلة الجنينية يجد أمامه نوعا آخر من التحديات، وها هو يقتحم العقبة تلو الأخرى وسط فوضى عارمة وضجيج مهول، وما تعانيه الإنسانية اليوم من تفسخ الأجيال والعبث بالمسؤولية هو نتيجة لما زرعته بالأمس.
كثير هم الذين يتكلمون عن التحديات التي تواجه الأمة بصفة عامة، وهي كثيرة جدا، تحديات تواجه الحضارة وأخرى تواجه الإنسان، وأخرى تواجه الإسلام، ويقبل مفكرو(نا) على الكلام فيما يسمى ب (التحديات) من دون إدراك للمغزى الحقيقي للكلمة، فالتحدي في أصل معناه يعني المباراة والغلبة(1)، ولابد لكل من يريد أن يباري ويغالب أن ينطلق من أرضية، ومن موقع إليه يعود، فضلا عن ذلك لابد من أدوات للغلبة، ووسائل وإمكانات توفر النجاح في تحدي الخصم.
لا أحد ينكر أن التحدي الغربي للعالم الإسلامي كان شاملا، عاما ومتنوعا، ولا أحد ينكر أن التحدي الغربي إنما تقدم إلى ساحة النزال من مرجعيته التي يلوذ بها ويذوذ عنها، ولذلك كان ناجحا في تحديه لنا، ولنا هنا أن نتساءل : إذا كنا نطمح إلى التحدي فمن أي موقع؟ ومن أية أرضية؟ ثم ماذا أعددنا لهذا التحدي؟
إذا أردنا أن ننجح في تحدي الآخر فلا بد من الاتفاق على المرجعية، ولا بد من الإخلاص لها، وإذا أردنا التحدي كشعار، وكموضة فكرية فعلينا أن نعلم أن هذا هو التحدي المعكوس، تحدي ضد الخصوصية وضد الذات، وواقعنا اليوم يشهد أننا في اضطراب تجاه الخصوصية، وأن هناك ضجيجا وعويلا حول الهوية والتراث، لم يهدأ بعد فكيف إذا نتكلم عن (التحدي)؟ وكيف نطمح إلى تحقيق الانتصار في مبارزة الآخر ونزاله؟!
إن التحديات التي تواجه الطفولة عميقة، كبيرة ومتنوعة، منها: التحديات الحضارية التي تشمل التحديات التكنولوجية والإعلامية والتجارية والاستهلاكية، ومنها: التحديات التربوية التي تشمل التحديات الثقافية والتوعوية التوجيهية والتكوينية والتعليمية، وتنضاف إليها التحديات القانونية التي تشمل التحديات الحقوقية بصفة عامة، وما تولد عن ذلك من إسهال وإهمال، إسهال في توليد القرارات والقوانين وإهمال في التطبيق، وهذه التحديات في مجموعها تستهدف الأسرة في المجتمع، والمجتمع في الأسرة نتولى الإشارة إلى التحديات الحضارية، ثم التحديات التربوية،فالتحديات القانونية.
3-1- : التحديات الحضارية
وتتمثل في المخاطر التي تتعرض لها الطفولة في مجتمعاتنا الإنسانية المعاصرة، وأقوى هذه المخاطر هي النزاعات التي تقع بين الإنسان والإنسان على هذه الأرض، وهي نزاعات متعددة ومتلونة يراها الأطفال ويعيشونها، ويعانون من مساوئها، منها :
النزاع الفكري الذي يشوه الحقيقة ويطمس معالم الذات.
والنزاع الإيديولوجي الذي يعتم على المعقول والمنقول.
والنزاع الديني الذي يطفو على السطح في كل وقت.
والنزاع القومي الذي يؤجج الأعراق والمذهبيات.
والنزاع السياسي الذي تحركه مصالح ومطامح الدولة الوطنية في العالم .
والنزاع العقلاني الذي يسحق العاطفة ويدوس القيم.
والنزاع العسكري الذي يضيف إلى مأساة الأطفال فصولا جديدة، ذلك أنه يزهق أرواحا بريئة لا ذنب لها في هذه الحروب، أما البقية المتبقية فتبقى رهن اليتم والعاهات والجوع والتشرد.
ويأتي صراع الإنسان (ضد) الطبيعة بويلات من نوع آخر، فالطفولة وإن استفادت من التطور التكنولوجي فإنها في الوقت نفسه تشكو من هذا التقدم، ومن هذا التطور الذي لا يرحم براءتها.
لنلق نظرة في شوارع المدن بما فيها المدن ذات العمارات الشاهقة في البلاد المتقدمة والنامية والمتوسطة النمو كم عدد الأطفال الذين يجوبون الشوارع ويطوفون بالأزقة متسولين وتائهين وحائرين، لنلق نظرة على نظراتهم وهي تلعن هذه الأموال المكدسة في البنوك، التي تمول بها مشاريع الإسكان والإعمار وغزو الفضاء وهم محرومون من أبسط العناية، لهم الحق في أن يلعنوا هذا التكالب التكنولوجي وهذا التسابق العمراني الذي جاء على حساب بنائهم وتكوينهم وإعدادهم، فالشارع اليوم هو بيت نسبة كبيرة من الأطفال، وهو المدرسة الحقيقية لطفل حضارتنا المعاصرة، منه يأخذ القيم والأعراف والتقاليد والمعلومات، وهذه النسبة هي التي يطلق عليها الاجتماعيون (أطفال الشوارع)،الذين هم عرضة للتحرشات الجنسية وللتسخير في الدعارة والاتجار في المخدرات، كما أنهم يشغلون في الأعمال الشاقة.
نحن اليوم أمام حقيقة واقعة لا خلاف فيها، وهي أنه كلما كبرت الحضارة صغر الإنسان، وكلما تقدمت الحضارة تخلف الإنسان، وكلما ازدهرت الحضارة توارى الإنسان إلى الوحشية والهمجية، والسؤال هو: كيف ستكون الحضارة في المستقبل القريب إذا وصل هؤلاء الأطفال بعقدهم المركبة إلى مراكز القرار السياسي؟ أو إذا تولوا مسؤوليات في داخل دولة الحضارة؟ !
3-2- : التحديات التربوية
أهم ما يصادف الباحث في موضوع “تربية الطفل” هو ذلك الكم الهائل من الإنتاجات الفكرية التي يصعب الإلمام بها، وقد زاد من هذه الصعوبة تعدد الكلام وتداخله، فهناك الكلام البيداغوجي، و الكلام السوسيولوجي، وكلام بعلم النفس والاقتصاد والمعلوميات والرياضيات، والدارسون المحدثون العرب والغربيون يشكون من عدم وجود دراسات في الموضوع تساعد على التغلب على هذه الصعوبات.
لا نتكلم عن طرق تربية الطفل في الإسلام، لأن الطفل في الإسلام يربى لأجل تكوينه وإعداده إعدادا سليما يتماشى مع سلامة فطرته وهدي قوانين الشريعة الإسلامية، وعلى إثر ذلك تكون العملية التربوية مقصودة لذاتها، أما تربية الطفل في الغرب فتكون وسيلة لمقصد حضاري، ذلك أن أهم ما يوجه الطفل تربويا هو التخطيط البيئي والتفاعلات التكنولوجية والتكالبات المالية، والمزاحمات العمرانية، يقول المفكر الأمريكي روني دوبو : “إن الحياة الشاذة التي يعيشها عامة الناس اليوم تخنق وتعطل التفاعلات الحيوية الضرورية لسلامة الإنسان العقلية ونمو الإمكانيات الإنسانية، إن كل المفكرين قلقون على مستقبل الأبناء الذين سيقضون حياتهم في بيئات اجتماعية سخيفة، عابثة باطلة، نخلقها نحن لهم بدون أي تفكير، وأكثر ما يزعج هو علمنا بأن الخصائص العضوية والفكرية للإنسان تخططها اليوم البيئات الملوثة والشوارع المتراصة، والأبنية الشاهقة والخليط الحضاري المتعدد، والعادات الاجتماعية التي تهتم بالأشياء، وتهمل البشر، ولدى الشباب أسباب وجيهة لرفض القيم التي تسود المجتمعات التكنولوجية”(1).
لابد من إقرار حقيقة علمية تغافلتها الخطابات التي جعلت من الطفل موضوعا لبحثها وهي أن الشريعة الإسلامية جاءت بسيل من النصوص التي تخص الطفل، وحينما نقول: “الشريعة الإسلامية” فإنما نعني: القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وإذا أضفنا إلى هذين الأصلين ما جاء عن الطفل في الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وتيارته تحصل لدينا ركام من الإنتاج يخص الطفل ويخص أحكامه المتعلقة به.
الأحكام الشرعية حينما تتكلم عن الطفل إنما تتناوله تناولا شموليا، تناولا يغطي جميع مراحله منذ أن كان جنينا إلى أن يبلغ، وهذه الأحكام تتنوع إلى نوعين:
– نوع خاص مرتبط بظرف زماني معين، يخص مرحلة من مراحل نمو الطفل مثل: الرضاع والختان والتعليم والتربية بالإضافة إلى توجيه العناية والاهتمام ببعض القضايا التي تخص الناحية الصحية مثل ال‘اقة والشلل والصمم والأمراض العقلية. كالإعاقة والشلل والصمم واليتم والأمراض…
– ونوع عام مرتبط به في كل حالات أدواره وأطواره، وهذه تخص الإنسان الذي توجهت إليه هذه الأحكام بصفة خاصة.
ومما يلفت الانتباه أن مجمل الدراسات والأبحاث حول الطفولة والتي تتسم بصبغة الالتزام والمسؤولية نجدها تنحو مناحي مختلفة :
– بعضها يجمع النصوص بعضا فوق بعض، من دون تحليل ولا تعليل، تظن أن النص ناطق بنفسه وليس في حاجة إلى فهمه واستيعابه ثم تنزيله على واقعته، وهذا من التكرار غير المطلوب، ففي الفقه الإسلامي أبواب كثيرة ومصنفات تخص الطفولة وأحكامها، تحتاج بعد الفهم والاستيعاب تفعيلا على صعيد الممارسة مع رصد التجربة التربوية في هذا الباب.
– والبعض الآخر ممن وكلت إليه الدراسة والبحث، أو تسلط عليها من موقع (البحث العلمي) يفهم هذه النصوص من منظور الفهم الغربي والتجربة الغربية، وهؤلاء هم عالة على غيرهم في فهم النص والواقع.
– ثم هناك من يتصدى لدراسة الأحكام المتعلقة بالطفل دراسة عامة، تاريخية وجافة، تكتفي بسرد التجارب والخبرات، قرنا بعد قرن، وزمنا بعد زمن، وهذه الظاهرة تعود بالسلب على هذا الموضوع الذي هو من الأهمية بمكان، لا نعيب على هذا المنهج بوصفه يعتمد الطريقة التاريخية ولكننا نعيب عليه السرد والحكي مع إغفال المقصد الذي تريد تلك التجارب تحقيقه، فالمقصد يبقى عائما وسط استطرادات تاريخية، وأقاويل مختلطة فضلا عن كونها سلما يرتقيه المتخصص الغافل وغير المتخصص الجاهل.
إن الذي دفعنا إلى إقرار هذا الأمر البدهي هو طغيان موضوع الطفل في الخطاب العربي المعاصر مصحوبا بسكوت مطلق عما تحمله شريعة الإسلام في طياتها من أحكام تخص الطفل، وهذه قضية تزيد الطين بلة حينما تصبح هي بدورها مشكلة جديدة أمام المصلحين والمربين والمختصين والباحثين، بل أمام الآباء والأمهات بصفة أخص، وهي مشكلة تنضاف إلى المشاكل التي يعاني منها الطفل في عالم اليوم.
نعي جيدا أن الطفل يعيش في واقع فيه ما فيه من المشاكل الكثيرة، ونعي أيضا أن أمامنا تراثا هائلا يخص الطفل، ويخص قضاياه العامة والخاصة، ويتساءل الكثيرون عن العملية التربوية من أين تبدأ ؟ وكيف تبدأ ؟ هل تبدأ مع هذه الأحكام في التربية ؟ إذا كانت كذلك – وهي كذلك- فما حجم استيعاب الآباء لهذا التراث؟ وما حجم تقديرهم له وتعاطفهم معه؟ هل ما في الشريعة الإسلامية مجموع مصون في مكتبة خاصة هي في كل بيت فيه أطفال، وهي أساس تعليمهم في البيت، ومادة تلقين الآباء للأبناء؟ هل هذه المادة ميسرة للفهم وسهلة في الأخذ؟ أم يعتريها خلل ما أقواه هو خلطها بضدها ونقيضها، وأخطره هو فقدانها وضياعها !
إذا سلمنا بوجوده على الوصف المراد هل تكون العملية التربوية منها فحسب بغض النظر عن المشاكل التي تطوق الطفولة بصفة عامة وتطوق أولياءها ؟ إذا أخذت هذه المشاكل بعين الاعتبار لكونها قد فرضت قسرا في محيط الطفل هل ننساق معها انسياق المغامر من دون الرجوع إلى تراث الطفولة الشرعي أم نعالج ظواهرها من منطلق ذلك التراث ؟ لكن كيف تتم المعالجة؟ وما هي الأدوات المنهجية والقواعد الإجرائية التي تساعد على القيام بهذه المهمة؟
إن التراث التشريعي الذي يخص الطفولة لم يقع طفرة حتى يوقع في الحيرة والدهشة، إنه (تراث)، ومن مواصفات (التراث) أنه إرث، يأخذه الخلف عن السلف، والأخذ يكون بالكيف وبالاختيار وبالانتقاء وبالاجتهاد وبالتحري، وعلى مر السنين ترسخت عند المسلمين عملية تربية أبنائهم وفق طرق دقيقة وسليمة، جرت مجرى ( العادة )، فيها ما هو ثابت، وما هو قابل للتغير والتبدل وفق ما تمليه طبيعة العصر.
ومن جانب آخر فإن التحديات التي تطوق الطفولة هي حديثة وطارئة ولابد من التمييز بين الطارئ الدخيل والموروث الأصيل، وإذا كان الموروث الأصيل قد فرض منهجية متبعة مقننة ومدروسة فإن الطارئ الدخيل يبحث له دائما عن منهجية للتعامل معه، وقد جرت العادة في مثل هذه المآزق أن يكون النظر إلى الطارئ الدخيل من موقع الموروث الأصيل لا العكس، وأي أسلوب يطمح إلى العكس يكون خللا في بناء العملية التربوية.
وفي هذا السياق لابد من التفريق بين وضعين مختلفين : وضعية الطفل في الماضي ووضعيته في الوقت الحاضر، فالماضي في ذاكرتنا وتصورنا له قدسية وشرف، والحاضر في إحساسنا مدنس ومنحط، لذلك يميل كثير من الآباء إلى إرغام أبنائهم على العيش وفق الماضي، سعيا إلى التطابق، وهذه العملية تلغي زمان الطفل كلية وتقطع بينه وبين المحيط، لا ينظر في التحديات و المخاطر المحدقة به آنا واستقبالا، ولا يعمل حتى على فهمها وفهم أضرارها، وقد أفضت هذه العملية إلى إيجاد طفولة جاهلة بواقعها.
كان الطفل في الماضي لا يسمع غير القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت عيناه محدقة بالشيوخ وعقله في العلم، وكان يرى الغلبة والقوة لراية الإسلام وحضارته عبر المعمور، كان المجتمع بالنسبة إليه(أنموذجا) في حد ذاته، أما اليوم فقد اختلفت الموازين واختلت المواصفات، فحضارة المسلمين في تخلف وفي تبعية مذلة، والهجمة على الإسلام والمسلمين شرسة جدا، لا ترحم المقومات ولا تحترم المقدسات ولا تعير بالا للقيم، وإنسان الإسلام يسحق ويغزى ومنه طفلنا المعاصر الذي يشحن ضد مبادئه ومقوماته، وفي هذا الإطار يتساءل الكثيرون: هل نتركه يعرف هذه التحديات والعراقيل معرفة مصحوبة ببيان مخاطرها وسمومها ؟ أم نحجبها عنه كلية، وإذا حجبناها فإلى متى؟ ثم هل مثل هذه التحديات تحجب؟ إن لديها إمكانيات كثيرة وكبيرة لفرض معرفتها على العالم بأسره والأليق بالمربي ألا يجتهد في تعريفها له بل يجتهد في بيان أخطارها وأضرارها عليه وعلى مستقبله، فإذا كانت تجتهد ليل نهار في فرض نفسها عليه فعلى المربين والباحثين أن يجعلوا منها موضوعات سائغة للبحث والمتابعة لكشف أخطارها وزيفها لقلب مقصدها إلى ضده، وإذا كانت تسعى إلى إشحان طفولتنا البريئة ضد مقوماتها وأصالتها وقيمها فعلى المبدعين منا والمهرة أن ينجحوا في إشحان طفولتنا ضدها وضد مقاصدها، ونجني من هذه العملية ثمرتين: الأولى تخليص الإنسان من ورطة الوقوع في حبائلها، وضمان بقائه على فطرته السليمة، والثانية تلقيحه بالمبادئ والقيم حتى يكون صالحا لممارسة التأثير عوض أن يتأثر بسهولة.
لابد من الإصغاء للطفل، ولا بد من إعطائه فرصا للتعبير والتفكير والشرح والتفسير، وقبل ذلك وبعده لابد من تكوين قابلية لدى نسبة كبيرة منهم لأن يستمعوا لآبائهم ومرشديهم، فإن المزاحمات والعراقيل قد نجحت في تدمير هذه القابلية لدى الطفل.
إن طفولتنا اليوم هي طفولة يتيمة في عصرها الحديث على الرغم من وجود الآباء والمربين، والسبب هو :
– إما أن الآباء والمربين مهملون لأبنائهم غير مكترثين بهم، وهذا توجه العديد منهم، حيث يلقي الأب المسؤولية على الأم، والأم تلقي المسؤولية على الأب، أو أنهما يلقيانها على المدرسة، وتبقى القضية في التربية تلقائية.
– وإما أن الآباء مشغولون عن أبنائهم، فهم يقدرون المسؤولية تجاه الأبناء، ولكن الواقع استهلكهم بالمشاغل والأعمال، هؤلاء تارة يغيبون وتارة يحضرون، ولا يكون حضورهم – إذا حضروا- إلا شكليا.
– وإما أن الآباء اختاروا لتربية أبنائهم توجها مغايرا، وهو الالتفات المطلق إلى الغرب.
لهذه الأسباب مجتمعة لا نستغرب من وجود خلل كبير داخل الأسرة الواحدة، خلاف تنشئه أطرافها بحسب نوع التوجه وفلسفة التكوين.
إن ثقافتنا الحديثة يغيب فيها تقديم النماذج الحية والحيوية في كل شيء، في ثقافتنا منهج فريد، هو أنموذج حي ومتكامل، مستمد من المنهج النبوي، كامن في السنة النبوية الصحيحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن أنموذج يقتدى به بما ربى به وبما ربي عليه، وقد طلبنا بالتمسك بسيرته وبالسير على سنته.
يقدم القرآن الكريم نماذج حية للإنسانية، أنموذج إسماعيل وطاعته المطلقة لأبيه، وهو في مقابل الأنموذج العاق ابن نوح الملقب بيام، كان لإسماعيل النجاح والفلاح وليام الغرق والخسارة، وتحفل القصتان بعبر كثيرة ، وبعظات وفيرة، وفي نصيحة لقمان لابنه وهو يعظه أنموذج حي لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وتقدم السيرة النبوية من فضائل ومناقب شباب الصحابة الشيء الكثير، ليكن المعني أسامة بن زيد أو عبد الله بن عباس أو مصعب بن عمير أو غيرهم.
وإذا كان الطفل في حاجة إلى تقديم هذه النماذج فهو في حاجة أشد إلى أن يجد في أبويه أنموذجا متكاملا، فالطفل مقلد بطبيعته، وما يحدثه الأنموذج من تأثير في سلوكات الطفل لا تحدثه العلوم والنظريات كلها ولو اجتمعت.
إن الصراع اليوم هو صراع النماذج، فالغرب يسعى إلى التأثير في أطفال غيره بأسلوبين :
– الأول بتقديم نماذجه الحية والخيالية بما فيها النماذج التاريخية، ونماذج الأفلام الحية والأفلام الكارطونية، وأصبح أطفالنا يتعاملون مع النماذج الكارطونية كما لو كانت حقيقة حسية وواقعية.
– الثاني هو تدمير الأنموذج الإسلامي الذي تصوغه الشريعة الإسلامية سواء أكان هذا الأنموذج تاريخيا أو واقعيا، يظهر ذلك في تشويه الصورة ونعتها بأبشع الألوان مع تقديمها في أشنع الصور.
لقد خلقت الحضارة المعاصرة اليوم مشاكل صعبة أمام تربية الأطفال في المجتمعات الإسلامية، ويظهر ذلك من كثرة الشكاوى التي يبثها الآباء الغيورون على أبنائهم على المتخصصين والمهتمين والدعاة والمربين، من ذلك :
– السفر بالأطفال إلى بلاد الغرب، إذ كثير من هؤلاء يفسد تعليمهم وتفسد تربيتهم، وغالبيتهم يصبحون قطعة من المجتمع الغربي.
– لعب الأطفال التي هي من صنع اليهود والنصارى، يراعى في صناعتها أشكال معينة وأنماط معينة كلها تصوغ ذهنية الطفل حسب رغبة الفلسفة الداعية إلى ذلك الشكل أو النمط.
– تعلم الأطفال اللغات الأجنبية، وهذه مشكلة تعليمية وتربوية يعاني منها الطفل في مجتمعنا الإسلامي المعاصر، ما هي اللغة التي ينبغي أن نختارها له؟ هل مازالت اللغة الفرنسية ذات قيمة وشأن حتى تستحق أن تلقن لأبنائنا في مستوى من العمر أم نعدل عنها إلى غيرها؟ إذا كان ولا بد ففي أي سن ؟ وهل يكون ذلك على حساب اللغة الأم؟
إن كثيرا من أطفالنا اليوم يتقنون اللغات الأجنبية في مقابل جهلهم بلغتهم وضعفهم التام فيها، بل كثير من هؤلاء الأطفال يتخذون من اللغة الأجنبية اللغة الأم بجعلها لغة البيت ولغة الشارع ولغة التواصل اليومي.
– نوادي اللعب التي هي من التمويل الأجنبي والتي يقبل عليها الأطفال جموعا، كثير من الآباء يتحفظون على هذه النوادي، وهي على كل حال ليست نوادي مجانية.
– مطاعم ماكدونالد التي تستقبل عددا هائلا من أبناء المسلمين بصحبة آبائهم وقد وفرت لهم أطعمة من نوع معين، ومشروبات غازية من صنع معين، ومبردات ومثلجات وغيرها، وتجد إلى جانب هذا كله أماكن لترفيه الأطفال، وماكدونالد شركة عالمية لاشك في أنها أجنبية تمتص أموال المسلمين امتصاص البواخر الأجنبية لسمك البلاد.
– تعليم الأطفال في المدارس الخاصة بعضها تبشيري محلي وبعضها تبشيري غربي وبعضها عصري محلي، هذه المدارس تتبع طريقة عصرية وحديثة في التعليم والتربية، وتعتمد الوسائل التلقينية الحديثة، وتقبل على هذه المدارس فئة عريضة من أطفال المجتمع المحلي، ويحتار الآباء في التمييز بين المدارس العصرية المحلية التي تربي الطفل وفق المبادئ الأصلية والمدارس التي تربي الطفل وفق النمط الغربي.
– مخالطة أبناء المسلمين لأبناء اليهود والنصارى، أو الأبناء المتأثرين بهذه النماذج في كل شيء، هذه المخالطة تهدم تربية البيت، وتحدث فيه ز لزالا من الخلاف والمشاجرة بين الأبناء والآباء، وقد تهدم البيت كله إذا رضي الأبوان بكل ما ينتج عن هذه المخالطة.
– المطعومات من الحلويات والشوكولاطة وغيرها والتي يستهدف فيها الطفل بالأساس، وهي مصنوعات تقرر بفعل الإشهار المخدر، وكثيرها يصطاد الطفل في الشارع أمام أبواب المدارس، مثل كعك المسمى ب (بوكيمون) و(بوبالون) وغير ذلك، وقد أتبتت هذه المأكولات والمشروبات المخصصة للأطفال ضررها للطفل في صحته وعقله، ناهيك عن الفساد الذي يصيب الأسرة في مالها، ومطالب الأطفال لا ترحم.
– مشاهدة الأفلام الخيالية الحية والكارطونية، فالحية منها تبنى على قصص الإجرام والعنف والجنس والخلاعة والميوعة وعرض المشاكل الزوجية بين الأب والأم والأبناء والآباء في صورة غير مهذبة، غير مقننة وغير مضبوطة، ومما يزيد الأطفال إثارة مشاركة الصغار في لعب أدوار غير مريحة، أما الأفلام الكارطونية فتضيف إلى أطفالنا مآسي متكررة، ففضلا عن كونها كثيرة تشد الطفل كل الوقت فهي تتناول قضايا خرافية وتربط الطفل بالأوهام والخيال غير العلمي، وغالبتها تبنى على العنف والتدمير، ويختار البطل كشخصية خرافية تتعلق به أذهان الأطفال، ويقدم كأنموذج يحتذى به، ناهيك عن أن هذه الأفلام في مجموعها لا تسلم من المنحى الإيديولوجي لعقيدة معينة أو لنظام سياسي معين، ويقبل الأطفال على هذه الأفلام بطريقة هيامية وغرامية مثيرة.
– مشاهدة برامج اللعب وصبيحة الأطفال، وهذه وإن كانت لها فائدة بالنسبة للطفل في يوم من الأسبوع أو يومين لكونها من إعداد الإذاعة الوطنية فإن غالبية الأنشطة والفقرات تنحو منحا غربيا، فالبرنامج يقدم باللغة الأجنبية والشخصيات التي تدير البرنامج يختار فيهم زي معين، والخطاب يتوجه إلى فئة معينة من الأطفال، ولذلك فكثير من الأطفال لا يتفاعلون مع تلك الصبيحات كثيرا.
– أما وسائل الإعلام الحديثة مثل الكومبيوتر والإنترنت فهي بدورها لا ترحم الطفل في عمره، إذ تستهلكه استهلاكا، ويشكو كثير من الآباء من كون أبنائهم يقضون الساعات الطوال إن لم يكن اليوم بأكمله أمام الكمبيوتر للعب واللهو أو أمام الإنترنت لمشاهدة كل ما يتراءى أمام العين.
– المناسبات التي تعقد للطفل عالميا مثل اليوم الذي تحتفل به اليونسكو واليونسيف، والتي يطلب من الطفل أن ينخرط فيها انخراطا، وهذه الظاهرة العولمية تضمر من السلبيات الشيء الكثير، فمداومتها كل سنة تجعل منها عيدا خاصا به، وربطها بجهات أجنبية توهم الطفل أن هذا منة محمودة من النظام العالمي الجديد عليه، والتفاتة كريمة من الغرب إليه دون أن يدرك أن ما في تراثه وقيمه ومبادئه يغني عن كل هذه الشعارات إن مورس كما يجب.
– شيوع ظاهرة الاحتفال بأعياد ميلاد الأطفال والتي تتم بطريقة غربية لا في الشكل ولا في المضمون، فعيد ميلاد الطفل هو نفسه ابتكار غربي مخالف لأصول التوجهات الإسلامية، واختيار الهدايا بأشكال معينة، وتقديمها إليه وإلى ضيوفه بطرق معينة كلها أمور بعيدة عن القيم والأخلاق الشرعية، ناهيك عن الأناشيد التي تتلى باللغة الإنجليزية والتي تضفي على الجو صبغة غربية متناقضة.
– وإذا كنا قد تكلمنا عن الأفلام وسلبياتها على طفولتنا البريئة، فلا ننسى ما تحدثه المسرحيات والقصص الممثلة من ترسيخ الظواهر المذمومة في عقلية الطفل، لأن هذه المسرحيات لا تختار القصص التي تربي على العفاف والصبر والحلم والعطف والمحبة والشجاعة والصدق وحسن الخلق وإنما تختار القصص الهزلية ذات طابع إباحي او قصص وأخبار العنف، ولا شك أن هذا يؤثر على الطفولة البريئة.
– وتشارك الصحافة في هذه الحملة الشرسة على براءة الطفولة برسوم وقصص وأخبار ونوادر بعيدة عن العفة، وما تنشره بعض الصحف من أخبار الجنس والخلاعة والغرام وربط الاتصالات غير المشروعة في عمود ركن التعارف بين الذكر والأنثى، مع بث أخبار الوقائع الجنسية الفاسدة هو دليل على أن هناك مؤامرة تدبر للطفولة بليل ونهار.
– وينضاف إلى هذا إنشاء ما يسمى ب (رياض الشباب) و(دوائر الشباب) و (جمعيات للشباب والأطفال) و (أندية الطفولة والشباب) وهذه كلها مؤسسات تصطاد الأبناء من آبائهم، يراعى في تكوينهم وتوجيههم أيديولوجية معينة، هذا فضلا عن كونها تفتقر إلى الوسائل المادية والمعنوية في التكوين والتأطير.
– من المشاكل التي تعاني منها الطفولة غياب الأم عن البيت طيلة اليوم، فهي إما في شغل أو غيره، وتحاول بعض الأمهات – وهن يمثلن نسبة كبيرة في مجتمعنا الحضري – إلى تعويض غيابهن بالخادمات، وهذا يزيد الأطفال مآسي كبيرة جدا، وذلك حين تتولى الخادمة مسؤولية تربية الأطفال في غياب أمهم، وقد نتجت عن ذلك مشاكل تحتاج حكايتها إلى شهور.
– كثرة (الكلام) عن حقوق الطفل، وإيجاد ترسانة من القوانين تخصه وتخص حقوقه زادت الأمر تعقيدا، كلما كثرت التشريعات في موضوع معين كلما حصلت الأزمة وتفاقمت.
هذه مشاكل عامة هي موجودة في كل مجتمع مجتمع، وفي كل بلد بلد، مشاكل واقعية وحية، بعضها مفترض وآخر مفتعل ، وأمام الآباء والمربين مجهودات كبيرة جدا للوقوف أمامها إما للتحذير منها إذا كان فيها ضرر، أو التنبيه على الإيجابي والنافع في بعضها إذا انطوت على ما ينفع وما لا ينفع، وإن كانت السمة الغالبة هي أن هذه الظواهر تنطوي على قدر كبير من مدمرات القيم ومفتتات الأخلاق.
لقد بلغ القلق النفسي لدى أطفالنا ذروته، وكثرت الأمراض العصبية والتشنجات وردود الأفعال ضد آبائهم ومربيهم بشكل مثير، وكثر اليأس، وتستطيع أن تلاحظ هذا إذا أصغيت إلى تساؤلاتهم: لماذا نذهب إلى المدرسة؟ لماذا نقرأ؟ لماذا نصلي ؟ لماذا نذهب إلى المسجد؟…
وأصبح أهم ما يميز الطفل هو العنف، وظهرت لديهم بعض الأمراض كفقدان الشهية والانطواء، وأصبح العزوف عن اللعب وعدم الانخراط في جو العائلة سمة الكثير من الأطفال، كما كثر البكاء التلقائي والغضب التلقائي والتبول التلقائي، وأصبحت طموحاتهم تفوق حجم أسرهم وذويهم، وغاص الآباء وسط فوضى من المطالب انضافت إليها واجبات عيادة الطبيب النفساني المتخصص في طب نفس الأطفال.
إذا كان هذا يخص (طفل المدينة) فماذا نقول عن (طفل البادية)؟ ماذا عن مشاكل هؤلاء والتي تفاقمت وتراكمت؟ ماذا يقول طفل البادية وهو محروم من التعليم ومن الصحة، ماذا يقول (المجتمع البدوي) الذي يعاني من قلة الماء والكهرباء مع انتشار الجفاف والأوبئة والجهل والأمية؟
هناك أطفال هم في أمس الحاجة إلى العناية المادية والرعاية الصحية، وهم على قدر من التربية والتخلق والتوجيه، وهناك فئة أخرى ليست في حاجة إلى لباس أو أكل و شرب ولا عناية مادية بقدر ما هي في حاجة إلى تنمية قدراتها العلمية والمعرفية والأخلاقية، فالفئة الأولى هي في حاجة إلى ذلك حتى يتقوى عودها ويشتد ساعدها، لأنه لا علم ولا ثقافة ولا تعليم مع الجوع والمرض، والفئة الثانية هي في حاجة إلى العلم والتربية والتوجيه لأنه لا صحة مع ضعف العلم، ولا سلامة مع وجود الجهل ولا رخاء عيش مع فقدان وازع الأخلاق والتربية السليمة.
3-3- : التحديات القانونية
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة وثيقة حقوق الطفل في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1989م، وفي نفس السنة احتفل العالم بالذكرى العاشرة لسنة أصبحت عالمية للطفل، كما صادف ذلك العام ذكرى أخرى هي الذكرى الثلاثون لإعلان حقوق الأطفال المتوج بإقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتفاقية حقوق الطفل، ثم كان مؤتمر القمة العالمي المنعقد في مقر الأمم المتحدة في شهر أيلول (شتنبر) من عام 1990م، وهو مؤتمر لأجل الطفل، وأنشأ العرب في القاهرة مجلسا عربيا خاصا للطفولة والتنمية سنة 1988م، وعقدت في ذلك عدة ندوات ومؤتمرات يطول بنا المقال بذكرها، من أشهرها: “المؤتمر الدولي للطفولة في الإسلام” المنعقد في القاهرة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من سنة 1990م، وفي الفترة نفسها عقدت ندوة دولية في تونس كان موضوعها هو حقوق الطفل، كما عقدت ندوة دولية في عمان بالأردن عن (حقوق الطفل وتربيته في الإسلام والمسيحية) بالتعاون ما بين المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) والمجلس البابوي للحوار بين الأديان في كانون الأول (ديسمبر ) من سنة 1990م.
وإذا أضفنا إلى هذا ما كتب ويكتب عن الطفل في مؤلفات ومقالات ودراسات وأبحاث زيادة على ما يقال في اللقاءات الإذاعية والبرامج الصيفية سنجد تراثا هائلا من (الكلام) عن (حقوق الطفل)، ومختصر هذا الكلام هو العناية بالأطفال وتنميتهم ورعايتهم وتنشئتهم تنشئة سوية، والاهتمام بأسرهم، والمطالبة بتأمين نموهم العقلي والجسمي والنفسي، لكن ثمرة هذه التوصيات وهذه المطالب تقاس بمدى فاعليتها في أطفال اليوم!
إنه لمن المحير حقا أن يوجد لدى العالم اليوم سيل من القرارات والمواثيق والعهود والتوصيات وأمامنا المئات من الأطفال يموتون جوعا، تفتك بهم الأمراض القاتلة، وتنقل لنا وسائل الإعلام المرئية صورا تبعث على الرعب والدهشة : حوادث الجوع والتشريد في إفريقيا، وحوادث القتل الجماعي المنظم لأطفال العراق والشيشان والبوسنة والهرسك وفلسطين والصومال وأفغانستان واللائحة تطول… !
وإذا نظرنا في مجمل هذه القوانين والقرارات الدولية نجدها تعكس ثلاث سلبيات:
إحداها : أنها حبر على ورق، لم تستطع حتى الآن التخفيف من آلام أطفال العالم، أو أن توقف –على الأقل- ما يرتكب في حقهم من قتل وفتك وإبادة وتشريد.
الطفل اليوم هو في حاجة إلى ممارسة هذه الحقوق عمليا لا الكلام عليها نظريا !
والسلبية الثانية أنها أغفلت الأحكام الشرعية التي جاء بها الإسلام في حق الصغار والكبار، بل إن كثيرا من هذه البنود تخالف الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة، وما يدعو إلى التساؤل هو: هل أطفال المسلمين معنيون ببنود هذه المواثيق أم لا؟ فإن كانوا معنيين فلا بد من اعتبار لخصوصيتهم، وهذا حق من حقوق الطفل المسلم، وإن كانوا غيرمعنيين فلا بد من اعتبار لحقوقهم على معيار خصوصيتهم.
وتؤكد الدراسات والأبحاث أن كثيرا من بنود هذه المواثيق تتماشى مع عقيدة المسيحيين وأحكام دينهم، وهذا مؤشر على أن خصوصية الأطفال غير المسلمين روعيت بشكل كبير في هذه المواثيق، والدليل على ذلك أن المسؤولين الكاثوليك كانوا وراء صياغة كثير من أوراق ميثاق حقوق الطفل الصادر عن الأمم المتحدة، يقول أمين فهيم – وهو رئيس المكتب الكاثوليكي الدولي للطفولة في القاهرة – : “يمكنني أن أستنتج أن اتفاقية الأمم المتحدة من أجل حقوق الطفل – ويعني اتفاقية 20 نوفمبر 1989م- انعكاس لاهتمام الكرسي الرسولي فيما يتعلق بتربية الطفل وحقوقه عموما”1 .
والسلبية الثالثة تتمثل في أن بعض بنود اتفاقية 20 نوفمبر يكتنفها خلل كبير، فالبند الأول من المادة الرابعة عشرة من الاتفاقية ينص على ما يلي: “تحترم الدول الأطراف حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين”، وهذا مخالف للمعلوم من طبيعة الطفولة ! وأية حرية هذه التي تلزم مؤسسة الأسرة والدولة على مراعاة هذا الحق؟ وهل الطفل في هذا الطور يملك حرية الوجدان؟ ثم أي دين يمكن للطفل الحق فيه؟ وهل في سن الطفولة يكون الطفل مميزا لطبيعة الأديان؟!
على الميثاق أن يلزم الشعوب والدول على ضمان سلامة الأسرة التي يعيش فيها، وضمان حقه في التربية الروحية، فإن لم توجهه إلى “التربية الإسلامية” فعليها على الأقل أن تحترم خصوصية أطفال المسلمين، وضمان حقوقهم في إيمانهم بدينهم، وحقوقهم في السلامة من أسباب الفسق ووسائل تدمير الأخلاق، فإذا تربى الطفل على هذه الخاصيات كان ذلك اكبر مورد في الحياة، واكبر كنز يحمله معه في مسيرته، كنز ينفق منه ولا ينقطع.
إن التحديات القانونية يمكن رصدها في جهتين:
– الجهة الأولى تتمثل في القانون الغربي الذي يفرض على الدول الفقيرة باسم الاتفاقيات الدولية والعهود والمواثيق، هذه الاتفاقيات لا تعير اهتماما للخصوصيات والهويات، والدليل على ذلك أن ما يتم التوقيع عليه لا يحترم المبادئ والأصول.
– والجهة الثانية تتمثل في القانون المحلي الذي كثرت قراراته بشكل كبير، وهي قوانين وقرارات مستوحاة من القوانين الوضعية، تطمح الدولة من خلالها إلى إحداث نقلة سريعة وفجائية للمجتمع ولكل القطاعات في داخل الدولة، وهذه النقلة تعكس سلبيات على مستوى تغيير المبادئ بل وتجاوز القيم والثوابت، تلك هي مشكلة القانون المحلي في وضعيته الجديدة، وهي مشكلة يفرضها على واقعه المجتمعي لأجل تكبيله على مدى سنين عديدة، ولا يخفى ما يحدثه هذا الضرب من القانون للطفل من تحد لبنائه وتكوينه، بناء يمسه في أسرته، وتكوين يمسه في تعليمه وتربيته.
أبانت الأيام على أن هذا القانون لم ينجح- رغم كثرة و تنوع مواده- في توفير المكان الآمن للطفل، مثل توفير المؤسسات الحامية، والأسرة الحاضنة، والطاقات والكفاءات الناجحة في التربية والتكوين والتوجيه.
لم ينجح هذا القانون في إخراج البرامج التلفزية والإعلامية والإشهارية من إغراق الجهد في الجزئيات البسيطة التي تلهي أكثر مما تشحذ، وتتلف أكثر مما توعي وتثقف، بل لم ينجح في إزالة سموم التنصير والتهويد والتمجيس، وسموم مصالح الشركات الاستهلاكية التي تنظر إلى الطفل كأداة الاستهلاك لا كإنسان يحتاج إلى تربية وعطف وحنان.
لم ينجح هذا القانون في تنقية الوسط الاجتماعي من تلوثات الانحراف والشذوذ ورذائل الأخلاق التي تحيط بالطفل من كل جانب، كيف نطلب منه الوفاء وغيره يخون؟ ! وكيف نطلب منه الصدق وغيره يكذب؟ ! وكيف نطلب منه الالتزام بالمبادئ والكبار المسؤولين عنه يستهترون بالقيم ويسخرون من المقدسات؟ ! كيف نطلب منه أن يكون فردا ناجحا في بناء الوطن والمجتمع في الوقت الذي يرى بأم عينه ويسمع بأم أذنيه نقيض هذا كله ؟ ! أو لا يتحمل القانون مسؤولية هذا الهدم الجارف!
4 – التحديات التي تواجه الطفولة في المجتمع المغربي المعاصر
قبل أن نقول إن التحديات التي تواجه الطفولة في المغرب ترجع إلى خطر التعليم والإعلام والتغريب وتفشي ظاهرة الفقر والطلاق وتفكك الأسرة نقول: إن اكبر تحد يواجه الطفولة في المغرب هو (القانون) الذي شرع لحماية حقوق الطفل وهو تحد مزدوج :
– كل ما افترضناه أنه يحمي الطفل أو لا يحميه يمر عبر القانون، القانون الضوء الأخضر لتمرير كل شيء.
– إن هذا القانون لا يحمي سوى نفسه ولا يحمي الطفل في الغالب، القانون يحمي قانون حماية الطفل فقط.
لهذا آثرت أن أتكلم هنا عن قانون حماية الطفل وما يتبع ذلك من إجراءات عملية لأنه في نظري يشكل التحدي الكبير الذي يواجه الطفل في مجتمعنا المغربي المعاصر، ويهمنا هنا أن نتكلم عن حماية الطفل جنائيا أو تنظيم مسؤوليته من الناحية الجنائية، وهذه كلها حسب (المشرع المغربي) تتكفل بها النصوص الجنائية، لكن ماذا في هذه النصوص(1)؟
– الفصل 131 غير دقيق وغير واضح، وهو يلزم الدولة بالأساس لأنها هي الملتزمة بالنفقة على الغير الصغير إذا تعذر الإنفاق من قبل الأبوين.
– تحديد سن الرشد الجنائي ب16 سنة في الفصل 414 من (ق-ج-م) فيه ظلم كبير وما جاء في هذا الفصل يعامل فيه الطفل كما يعامل الكبير.
– الفصل 516 من (ق-ج-م) لا تطبق فيه إلا النقطة الثالثة حسبما يجري به العمل.
– الفصل 499 من (ق-ج-م) لا يطبق ما فيه، وهو الفصل المخصص لمعاقبة مستغلي الأطفال، ووقائع الاستغلال في المجتمع كثيرة ومتنوعة.
– الفصل 131 من (ق-ج-م) يحتاج إلى تفعيل.
– ومثله الفصل 330 من (ق-ج-م)
– الفصول 138-139-140 من (ق-ج-م) تحتاج إلى تفعيل أيضا
– الفصل 525 من (ق-ج-م) مخالف تماما لما يجري به العمل في حق الطفل في المغرب.
– الفصل 527 من (ق-ج-م) لا تطبق منه سوى النقطة الثانية.
– الفصل 528 قاس في حق الطفل.
– الفصل 561 يحتاج إلى تعديل فالأحكام الصادرة عن محاكم الأحداث في حق الأطفال تسجل في سجل خاص يمسكه كاتب الضبط لكن لا ينبغي أن تمنع عن العموم.
انطلاقا من كل هذا نلاحظ أن الطفل دخل في مسلسل من المصطلحات القانونية التي غطت على إنسانيته كطفل وغابت فيها طفولته البريئة، طفولة التربية التي تستحضر معاني الحنان والعطف والمحبة والرعاية والتوجيه، وهذه المعاني التي تتضمنها المسؤولية الكاملة لا المسؤولية الناقصة، المسؤولية التي تبدأ من الأبوين فالمجتمع فالدولة، ولما كانت الدولة هي الحاكم العام فإن كلامنا هنا سينصب عليها.
مع قانون الدولة غابت تلك المعاني التي عوضت بمفاهيم أخرى ذات معاني لا يفهمها سوى الدركي والشرطي والقاضي، من مثل:
-الحدث : وهو الطفل القاصر الذي لم يبلغ بعد سن الرشد الجنائي الذي هو 16 سنة، والذي يحدده الفصل 514 من (ق-ج-م).
-المودعون : الذين تم إيداعهم بمؤسسات حماية الطفولة
-المستفيدون : الذين هم لا يزالوا بإحدى مؤسسات حماية الطفولة بناء على أمر قضائي.
ثم يدخل الطفل في مسلسل من المؤسسات التي تم الاهتمام بها على حسابه، ولأول وهلة يتساءل الباحث: هل هي وسيلة لحماية حقوق الطفل أو الطفل هو مجرد وسيلة لوجودها؟ وهو تساؤل مشروع لأنه ينبثق من منطق فشلها في القيام بحاجياته.
ولم تشارك هذه المؤسسات الطفل في التمويل فحسب بل شاركته حتى في التسميات، بعضها باسم (مؤسسات ومصالح حماية الطفولة) وبعضها ( مراكز لحماية الطفولة) وبعضها (المراكز الوطنية لإعادة التربية) والبعض الآخر (أندية العمل الاجتماعي)… هذه المؤسسات والمراكز حددت عملا من نوع إداري صرف يتلخص في الوظائف الآتية : (الحرية المحروسة)، (الرعاية اللاحقة)، (الباحثات العائليات)، (التدبير الوقائي) … وهذا كله يتوجه أساسا إلى (عقاب الطفل) بحسب نوعية الجنحة الموصوفة ب (أنها الأفعال الإجرامية المرتكبة من قبل الطفل ضد الغير)، أي كل ما يمس الأشخاص في أمنهم وصحتهم كالضرب والجرح والسرقة والتهديد والقتل، أما الجنوح ضد الممتلكات فمعناها: الأفعال الإجرامية التي لها علاقة بالممتلكات كإضرام النار والهجوم على مسكن الغير والسرقة الموصوفة، والجنوح ضد الآداب الذي فسر بأنه المتعلق بالأفعال الإجرامية التي لها مساس بالآداب والأخلاق كهتك العرض والزنا.
هكذا يتابع الطفل بعد عد وتحديد جرائمه، هكذا تسن القوانين والقرارات لمعاقبته وهي متابعة آلية، ميكانيكية، قاسية وصلبة، غير إنسانية وغير أخلاقية، يصبح الطفل فيها مجرد مصطلحات قضائية، وأرقام نسبية بمقتضاها يتحدد نوع الفعل الممارس تجاهه، والطفل لعجزه عن الدفاع عن نفسه أو توكيل محام ينوب عنه – بحسب عامل السن طبعا- لا يملك إلا الإذعان لقرار الحكم.
في إطار الدولة دائما نجد وزارتين لهما السيادة المطلقة في الموضوع، كل واحدة اختصت بوصاية معينة على الطفل.
– الوصاية القانونية والقضائية لوزارة العدل، وهي وزارة لا يهمها أن يصلح الطفل أو لا يصلح، بل يهمها (الحكم عليه) ليقضي مدته.
– الوصاية التربوية والتوجيهية لوزارة الشبيبة والرياضة.
حين يودع الطفل في مراكز لحماية الطفولة والتابع للوزارة الثانية بأمر من وزارة العدل (القاضي) فإنه يؤطر تأطيرا ناقصا، ووجه النقصان يتماشى مع المدة التي يقضيها لا المدة الملائمة لطبيعة التأطير، ثم إنه حين يغادر المؤسسة لا يتابع على مستوى التأطير، والسبب في ذلك عدم وجود نص قانوني مشرع لهذه المتابعة، وتبعا لذلك فلا توجد مؤسسة تتولى القيام بهذه المهمة (service de suite) ، إذا انتهت مدته انتهى وجوده، ظهر أن بعض مراكز حماية الطفولة كان لها أسلوب مرن في متابعته مثل مساعدته في البحث عن أسرته أو أحد أقاربه أو من يحسن إليه، أما الآن إذا أكمل مدته في المركز يخرج ويغلق الباب وراءه.
إن وضعية بعض الأطفال في هذه المراكز هي وضعية غير مريحة، فهم يقضون أوقاتا محددة في المركز ثم يتابعون بالسجن بحسب نوع الجنحة، وهذا فيه ما فيه من هدم لعملية البناء السابقة وهو قرار قاس في حقهم، ومؤشر فعلي دال على أن القانون لا يهتم إلا بنفسه، ينظر إلى الطفل كموضوع لتطبيقه وكمجال لترويجه.
جولة سريعة في محاضن هذه المراكز، وحوار بسيط مع هؤلاء الأطفال الذين هم ضحايا المجتمع المدني وضحايا حكم قضائي يبين أنهم ليسوا مجرمين بالمعنى الصحيح للكلمة، بل أصحاب مشاكل حقيقية نتجت عن طلاق أو يتم أو أمراض نفسية أو سوء توجيه أو سوء تعامل أو ضحية تقليد لثقافة معينة (مثل المسرح والسينما والتلفزيون …) ترعاها الدولة نفسها، والذي يثبت ذلك أن هذه المراكز لا تضم سوى أولاد الطبقة الفقيرة، وأولاد هذه الطبقة هم عرضة لظواهر كثيرة ومتنوعة تفضي بهم في نهاية المطاف إلى التشرد، والقانون المغربي يعتبر مجرد التشرد جنحة يعاقب عليها القانون، ينتهي العقاب عليها بإيداعه في مراكز حماية الطفولة.
ترى من المسؤول عن التشرد؟ هل الطفل أم الدولة؟ وإذا ما حصل التشرد فهل يواجه بالعقاب أم بدراسة أسبابه ومعالجة قضاياه؟ ثم كيف يستسيغ القانون إيداع الطفل المشرد مع القاتلين والسراق؟ ألا يتطور سلوكه من مجرد التشرد إلى أمور هي أخطر وأعظم بعد احتكاكه المباشر بالفئة الأخرى؟
لابد من الفصل بين الأطفال على مستوى نوعية الجنحة، ولابد من مراكز خاصة لذلك، وهذه المراكز لن تكون طبعا إلا بعد تغيير نص القانون الذي يجري به العمل الآن في مراكز حماية الطفولة في المغرب، لكن قبل هذا لابد من الاعتراف بأن الدولة قد نجحت نجاحا كبيرا في إيجاد ترسانة من القوانين والقرارات التي لا ترحم السلوكات المنحرفة للطفل وتصرفاته الناتجة عن سوء تربيته، لكنها فشلت حتى الآن في إيجاد أطر كافية، وإمكانات تفي بالاهتمام به، اهتماما يتوجه إليه بصفته طفلا يمر من مرحلة معينة .
لابد من التفريق بين الاهتمام بحقوق الطفل كموضوع إنشائي والاهتمام بالطفل ككائن بشري واقعي، والطفولة البريئة اليوم هي ضحية الكلام عن حقوقها، كلام في كلام، الكل يتكلم عن الطفل، لكن أين الطفل من هذا كله؟
القاضي على سبيل المثال حين يودع الطفل في هذه المراكز لا يتابعه ولا يعرف مشاكله، وهذه الأمور تظهر بوضوح في هذه المراكز فبمجرد الحكم عليه ينتهي عمله ، ثم إنه لا يستشير مع هذه المراكز التي أودع الطفل فيها بقرار من حكمه، هذا من جهة، من جهة ثانية لا يوجد هناك تنسيق بين المراكز التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة، هناك أزيد من عشرة مراكز موزعة على بعض مدن المملكة، فالدار البيضاء فيها وحدها ثلاث مراكز، وهذا حسب إحصائيات سنة 1998 الواردة في نشرة مديرية الشباب والطفولة التابعة للوزارة.
ومن جهة ثالثة فالمراكز لم تستفد من التجربة الغربية، فقد عقدت شركات التعاون مع مؤسسات من فرنسا وألمانيا وأمريكا في جانب الاهتمام بالطفل ورعاية حقوقه نرى أن الدولة لم تستفد إلا من مسألتين: أولا : القوانين والقرارات التي كانت تترجم من دون مراعاة لخصوصية المجتمع المغربي، وثانيا : التمويل وهما مسألتان لم تستفد منها الطفولة المغربية كما ينبغي .
ومن جهة رابعة لم تستفد هذه المراكز من البحوث العلمية التي استهدفت الطفل ببحث مشاكله الاجتماعية والنفسية والتربوية والأخلاقية.
في الوقت الذي تبقى فيه هذه المراكز تابعة لوزارة الشبيبة والرياضة، وفي الوقت الذي تبقى فيه هذه الوزارة تابعة لقرار القاضي التابع هو بدوره للمحكمة، وفي الوقت الذي تبقى فيه المحكمة باختلاف مسمياتها تابعة لوزارة العدل الوصية المباشرة يبقى الطفل بعيدا عن حقوقه، وبعيدا عن طفولته، وبعيدا عن حسن الرعاية وسلامة التوجه.
ماذا يفيد الطفل ويفيد المجتمع معه هذه النشرات التي تتحرى الدقة في وصف المراكز وعدها، وفي وضع النسب المئوية لعدد الأطفال المودعين في هذه المراكز من الذكور والإناث؟
ماذا تفيد تلك المعطيات الإحصائية وتلك الأيام الدراسية حول جنوح الأحداث؟
ماذا تفيد دلائل مهام واختصاصات أقسام الطفولة؟ كما أن التشريعات المتعلقة بالأحداث لن تفيد في شيء إلا في شيء نافع انعكس على وضعية الطفل إيجابيا !
كل الأوراق والنشرات تستعرض جهودا من نوع معين إلا جهدا واحدا غاب في مضامين هذه الأوراق، وهو الإشارة إلى ثمرة العمل المشخصة لتحقيق الهدف سلفا، ونجاح العمل إنما يقاس بتحقيق مقاصده، وإذا كانت الدولة تبدو إلى حد الآن غير ناجحة في تحقيق حقوق الطفل قانونا وشرعا فلا ينبغي لها أن تضيق على الأسرة وعلى المدرسة في القيام بهذا الواجب، كما لا ينبغي لها أن تضيق على العمل الاجتماعي الخيري الذي يرعاه المؤمنون من أبناء مجتمع هذه الدولة.
ضاع حق الطفل لأنه صغير، والذي ضيعه هو الكبير، فالكبير يعرب عن نفسه وقد يتخذ محاميا للدفاع عن حقه، أما الصغير فلا يعرب عن نفسه، وهو عاجز عن اتخاذ محام للدفاع عنه، لذلك ضاع وضاعت حقوقه، فمن يتكلم عن حقوق الأطفال اليوم؟ !
خاتمة
قدمنا في هذا البحث مجمل التحديات التي تواجه الطفولة في عالمنا المعاصر ، تحديات متنوعة: حضارية وسياسية وتربوية وثقافية وقانونية وأخطرها (الجهل بحقيقة الطفل)، فالطفل يعامل بمعاملات شتى، تارة يعامل كالكبير، وتارة كالبضاعة يستهلك ويستنزف، وتارة أخرى كالحيوان وإذا عومل كإنسان فبأشد قسوة…
ثم إنها تحديات متعددة، بعضها داخلي مفترض ، وبعضها خارجي مفتعل بفعل الضغوطات الأجنبية والمواثيق والعهود الدولية، ومن طبيعة هذه التحديات أنها شاملة لكل المراحل التي يمر منها الطفل ، ويبقى المقصد من افتعال هذه التحديات هو اكتساح الأسرة المسلمة حتى تنهار وتتفتت لانها المعقل الوحيد لتكوين الإنسان الصالح والفرد السوي(1)، وهي آخر حصن يلوذ إليه الفرد بدينه وعقيدته وأخلاقه ونسله( فلااقتحم العقبة).
……………………………………………………
انظر لسان العرب لابن منظور- مادة حدا -3/90 –طبعة دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي- بيروت- لبنان- الطبعة الثالثة 1999م. -(1)
المصدر السابق- مادة طفل- 8/174-175. -(2)
ندوة ( حقوق الطفل وتربيته في الإسلام والمسيحية) ، وثائق الندوة المنعقدة في عمان بالأردن- مؤسسة آل البيت بتاريخ 15 دجنبر 1990م.-(3)
لسان العرب 3/90 ، وقد تقدم.-(1)
(1) إنسانية … الإنسان لروني دوبو- نقد علمي للحضارة الغربية- ص : 13- تعريب الدكتور نبيل صبحي الطويل.
1 – ندوة “حقوق الطفل وتربيته في الإسلام والمسيحية”، 1990م، صفحة : 158.
فصلنا ذلك وبيناه في كتاب (بناء الأسرة بين القيم والتحديات المعاصرة)- مطبعة الإيباج بالبيضاء- الطبعة الأولى 2001م.-(1)
………………………..
ملحوظة : مقال محكم ، منشور بمجلة بصائر الرباط- العدد الثالث- مايو 2007م .