بسم الله الرحمن الرحيم
1 – المتكلمون في الموضوع:
كثر الكلام في هذا الموضوع واشتدت حدته، ولا ندري أخير يعكسه أم غير ذلك، أم هو خليط من ذلك؟ وكيفما كان الحال فإن الكلام في موضوع ترجمة القرآن أصبح ظاهرة ملفتة للانتباه تسترعي التوقف عندها ولو بقليل من التصنيف الخفيف والتعليق الرقيق.
يتبدى هذا الكلام على أنواع ثلاثة:
– نوع باشر القرآن بتطبيق خطة الترجمة عليه كيفما كانت من حيث الجودة وعدمها، فهو من حيث المبادرة هو نوع ريادي لأن عمله عمل تطبيقي.
– نوع تناول عملا من أعمال النوع الأول بالدراسة والبحث، إما بالانحصار في عمل واحد، وإما بالاقتصار على المقارنة بين عملين أو ثلاثة، وهذا النوع له وجاهته العلمية المرتبطة بالترجمة من دون شك.
– نوع ثالث ابتعد عن التطبيق، ونحا منحا نظريا جاعلا من الترجمة مجالا للبحث وموضوعا للدرس، وكلام هذا النوع على مستويين:
الأول: ارتكن إلى التراث، ومال إلى سرد أقوال المؤرخين والآراء الخلافية الفقهية من مجوزين ومانعين، وهذا الصنف مال إلى التسويد والتكثير، ولم يفرق بين ما يجب أن يكون تاريخا من الموضوع وما يجب أن يكون واقعا من العمل، ولو التفت هذا الموقف إلى تراجم معاني القرآن السابحة عبر القنوات الفضائية لعلم أن الواقع تجاوزه بكثير.
الثاني: مال إلى الواقع فنظر وحلل ونقد وعلل من دون حشو ولا إطناب، فجاء كلامه تقويميا تحليليا نقديا، يعطي البديل الواقعي والأصيل، ومنهم من وضع قواعد للترجمة كيف يجب أن تكون، وما هي المعايير العلمية التي يجب أن تسود فيها إلى غير ذلك…
2- حول المفهوم الحقيقي للترجمة:
قد يكون لمفهوم الترجمة معاني كثيرة لكن الذي يهمنا هنا المفهوم الذي يجب تحديده من المنظور العربي الإسلامي، والذي يجب الرجوع فيه إلى الأصول المعتبرة، ولذلك قلت “المفهوم الحقيقي” لأننا نريد اللغة والاصطلاح معا، ثم ننظر فيما يجب فعله بعد ذلك.
الترجمة في اللغة هي من المادة اللغوية “رجم” وتقع بمعنيين:
الأول: قدحي الدلالة، من الرجم ، ويقع إما بمادة مثل الحجارة في رجم الزاني وغيره ، أو باللسان مثل القذف بالغيب وبالظن السيئ، ومنه الكلام المرجم وهو الصادر من صاحبه على غير يقين، وتراجموا: تراموا بالكلام النابي أو بمادة ما.[1]
هذا المعنى الوارد في اللغة له وجه في الإستعمال الترجمي للقرآن، ف (بعض) التراجم الاستشراقية لمعاني القرآن – ومنها ترجمة دير كلوني- ضرب من القذف والقذع والرمي بغير علم.
الثاني: من الترجمان – بالفتح- أو التُرجمان – بالضم-، وهو المفسر- بكسر السين وتشديدها- وهو الصحيح في كلام العرب واستعمالاتها، يقال: قد ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر، والمفهوم من تعليق ابن منظور في اللسان[2] أن يحافظ المترجم على المعنى، لا يحدث ما ليس فيه ، ولا يذكر ما يعاكس مضمونه.
إذا أخذنا مفهوم “الترجمة” بهذا المعنى وجدنا أن هذا تقدم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ودليلنا على ذلك ما يلي:
أولا: لقد نقل النبي صلى الله عليه وسلم معاني القرآن إلى الناس، ونجد في أحاديثه المسندة الصحيحة ثروة طيبة من الآثار وظفت كلها فيما يطلق عليه في علم التفسير” تفسير السنة للقرآن” أو “تفسير القرآن بالسنة”، وهو ما يتفق مع قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)[3]، وقوله : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه)[4].
إذا أخذنا الترجمة بهذا المعنى نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترجم القرآن على صورتين:
– الصورة الأولى إلى اللغة، فقد نقل المعنى من لغة القرآن إلى لغة العرب، وما زلنا بحاجة إلى دراسة لهذا النوع من الترجمة تكشف على خصائصها وطرقها وكيفية صيانة المعنى بها وضرورتها في الفهم …الخ،
– الصورة الثانية أنه ترجمه إلى الواقع، والترجمة هنا تعني العمل به ، وهو ما يظهر في قول عائشة أم المؤمنين وقد سئلت عن خلق النبي فقالت : (كان خلقه القرآن)[5]، وفُسر بأنه كان قرآنا يتحرك ، وهو بمعنى ترجمة القرآن إلى الواقع.
ثانيا: كذلك فعل صحابته الكرام الذين فسروا القرآن وبينوه، ومنهم عبد الله بن عباس الملقب ب(ترجمان القرآن)، وهي بمعنى المبين والمفسر للقرآن، وللصحابة آثار طيبة في بيان معاني القرآن لكونه أنزل إليهم وأنزل فيهم وفيمن عاشرهم وخالطهم وعاداهم من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب، وهذا النوع يطلق عليه في علم التفسير”تفسير الصحابي للقرآن” أو “تفسير القرآن بقول الصحابي”.
إن ما خلفه الصحابة من تراث تفسيري وبياني للقرآن هو ضرب من الترجمة أو نوع من أنواعها ، لأنه انصب على بيان المعنى ، وهذا هو الجانب المهم في الترجمة.
3- البعد العلمي لترجمة معاني القرآن:
يمكن للباحث أن يميز في ترجمات القرآن الكريم التي تعددت وتكاثرت بصورة ملفتة للانتباه عدة أبعاد سلبية : البعد الديني ، والبعد الأيديولوجي ، والبعد التجاري.
أولا : سلبيات البعد الديني، وهي مزدوجة الوجود :
– البعد الديني المسيحي واليهودي، وهذا البعد كان وراء تراجم عديدة للقرآن الكريم، شحنت بالعداوة الدينية، والتعصب المقيت للمسيحية، ويمكن الجزم أن أول ترجمة للقرآن تمت عن طريق هذا البعد.
– البعد الديني الإسلامي، وهذا البعد إذا ابتعد عن العلمية والمنهجية وقع في السلبية، ذلك أن ترجمة معاني القرآن تتطلب المزاوجة بين العاطفة والإيمان من جهة ومقتضيات البحث العلمي من جهة ثانية، ولنا في تفاسير القرآن الكريم أمثلة حية، حين غلبت العاطفة على العقل، وساد الهوى على العلم والمعرفة .
ثانيا : سلبيات البعد الأيديولوجي، وهذا البعد واضح في أغلب التراجم الاستشراقية التي قدمت للقرآن الكريم ، بل هو الغالب والطاغي، وقد صرح غير واحد من المترجمين أنه لم يقبل على الترجمة لغرض علمي أو معرفي بل لغرض تشويه القرآن ودحضه وكشف تناقضاته، وتتداخل الأبعاد السياسية والحضارية والفكرية فيما بينها لتعطي بعدا واحدا ، وهو الذي أطلقنا عليه “البعد الأيديولوجي”، والغرض منه نفي العلمية.
ثالثا : سلبيات البعد التجاري، يقف الهدف التجاري والاقتصادي وراء تراجم عديدة للقرآن الكريم، وهما وجهان لقضية واحدة، وهي جني الأرباح الطائلة من وراء ترجمة القرآن، لقد لاحظ بعض المفكرين الغربيين سرعة انتشار الإسلام في الغرب، وظهور أجيال جديدة من المسلمين لا تعرف العربية، ولا تنطق بها، وهذه الأجيال تعد بالملايين فاستغلوا ظاهرة انتشار الإسلام، وقدموا لهؤلاء القرآن مترجما إلى اللغات الحية، فحققوا بذلك أرباحا مادية فضلا عن الأرباح المعنوية المتمثلة بالأساس في الشهرة، وفي إبعاد الناس عن اللغة العربية، إنها ضربة جديدة للغة العربية لكن بطريقة ذكية ، وخدمة جليلة للغة الأجنبية لكن بطريقة أكثر ذكاء.
لتفادي هذه الأبعاد السلبية، كان من اللازم التركيز على البعد العلمي في ترجمة القرآن، لماذا؟
لأن البعد العلمي هو القاسم المشترك بين العقول، البعد الديني هو قاسم غير مشترك، لا يمكن أن تلزم كل المترجمين بالإيمان ، والأبعاد الأخرى سلبياتها واضحة، أما البعد العلمي فإيجابياته أكثر وضوحا، وهو ملزم لنا وللغير.
وللبعد العلمي – في نظري- محددات أربعة:
المحدد الأول : الإعتقاد في قدسية القرآن الكريم .
القرآن هو كلام الله جزما، به نزل وبه وصف، ونقل الكلام يشترط فيه اللفظ، لأن الكلام لفظ، وكلام الله ليس ككل كلام.
هذا المحدد من شأنه أن يميز نص القرآن عن سائر النصوص الأخرى عند المترجم – وأنا هنا أستخدم مصطلح النص بالمعنى الأصولي- فلا يجب أن يتساوى هذا النص مع سائر النصوص، كل النصوص لها قابلية للترجمة والقرآن منها، إذ ليس فيه ما يمنع، لا توجد آية في القرآن تمنع ، وبما أنه لا يوجد نص شرعي من القرآن وصحيح السنة يمنع ف “الأصل في الأشياء الإباحة”، غير أن الإباحة هنا لا يجب أن تلحق بمعاني كتاب الله قبحا في أية لغة من اللغات وإلا حصل الحظر المقيد .
المحدد الثاني : الاعتقاد في علمية الترجمة .
قبل أن نجعل من “ترجمة معاني القرآن” قضية نختلف أو نتفق عليها نجعل من “الترجمة” نفسها موضوعا نتحاور حوله، ويجب أن نجيب على الأسئلة الكبرى التي تخامر الذهن بخصوص “الترجمة” : هل الترجمة علم له محدداته أم هو مجرد أيديولوجيا ؟ هل هي هواية أم احتراف؟ هل هي موضة فكرية حلت بالمكان بلا زمان أم صنعة؟ … أسئلة كثيرة تستوقفنا أمام باب هذا الموضوع الخطير والمثير، ومما يجب تسجيله في هذا السياق أن موضوع الترجمة هو موضوع خادع بطبيعته، يتراءى لك أنه واحد، لكن تلك الوحدة لا تعني أن المتحاورين بشأنه أو الممارسين له يريدون شيئا واحدا، لقد أطلت علينا الترجمة من الغرب، والتجربة الغربية في الترجمة ليست هي عينها التجرمة الشرقية، هم يريدون منها شيئا ونحن نريد شيئا آخر، ومهما كانت وحدة النص موجودة فإن اختلاف التجارب والطموحات والأغراض والأهواء والمصالح كلها تجعل من الترجمة وسيلة للعبور إلى ثقافة الآخر، ثم إن ترجمة القرآن أصبحت هواية عند البعض، أولئك الذين يقبلون على القرآن بالترجمة مثلما يقبلون على ترجمة نصوص الشعر والنثر والمسرح، وسادت فوضى في الترجمة، وتقبل اليوم المعاهد والمؤسسات والمواقع على الشبكة بترجمة المئات من الكلمات، الآخر يصنع ويكتب ويولد ويجتهد ونحن نترجم ، وأصبحت وظيفتنا النقل عبر الترجمة، وغرقت الثقافة العربية في وابل من القذائف الفكرية، والمصطلحات المتعددة والمتلونة، ويتم هذا في تسارع كبير إلى درجة أن العقل لم يتمكن من هضم ما وجد بالأمس فكيف يهضم ما وجد اليوم ، ولا أريد من خلال هذه الفكرة أن أصادر عملية الترجمة لكن الذي نود التنبيه إليه هو أن ظاهرة ترجمة القرآن تأثرت بهذه الموجة العارمة، ويكمن أبلغ تأثير في عدم براءة العمل الترجمي الذي يجعل من القرآن مجالا له، وباسم البحث العلمي يجب النظر فيه قبل النظر به، مقتضى هذا النظر تحديد المواصفات العلمية للترجمة، تشترك فيها جهود الباحثين المخلصين من كل الأقطار، لأن الترجمة تدق الباب على كل الحضارات والشعوب، لتصبح هذه المواصفات علمية، محترمة ومقدرة، والفائدة منها ضبط العلم، ومتى ما حصل الخلاف والتنازع يفزع إليها لضبط الخلل تماما كما هو حاصل في اللغات، فأنت إذا نطقت باللغة الفرنسية أو كتبت بها فأنت ملزم باحترام نظامها الداخلي الذي هو توقيفي في أغلب الحالات، وإذا حصل خلاف في اللغة تم الإحتكام إلى القواعد والضوابط اللغوية التي هي أول ما يدرسه الطفل في سنوات التحاقه بالمدرسة، وما قيل عن الفرنسية يقال عن اللغة الإنجليزية واللغة العربية بل عن سائر لغات العالم، ذلك ما نريده للترجمة نفسها، فعلى المترجمين أن يضعوا في نهاية أعمالهم او في بدايتها معايير علمية لترجمة معاني القرآن ، لأن نظرتهم كممارسين ليست كنظرة غيرهم ، ولهم خصوصيات تؤهلهم لوضع تلك المعايير العلمية.
المحدد الثالث : الإعتقاد في علمية علوم القرآن.
هذا الاعتقاد ملزم في ترجمة معاني القرآن لارتباطه بالمعاني رأسا ، فقد وجدت علوم القرآن لتيسير ضبط معانيه واستنباطها وفهم المغزى العام من القرآن الكريم، وهي أمور خارجية عن آي القرآن الكريم، لكنها تتحكم فيه بحكم أنها مستوحاة من القرآن نفسه، ومن أخل بها أخل بقسط كبير من المعاني ، وقد يستنبط معنى لكنه يكون بعيدا أو غير مقصود من الشارع، ولن تكون هذه العلوم غير معرفة “سبب النزول”، و”معرفة المحكم من المتشابه”، و”المكي من المدني”، ومعرفة “لغة العرب” التي نزل بها القرآن، و”وجوه الإعجاز”، ومعرفة “تفسير القرآن بالقرآن”، و”قواعد التفسير وضوابطه”، ومعرفة “السنة المفسرة للقرآن”، وأرى أن المترجم إذا أقبل على آية الطلاق مثلا أو المواريث والفرائض فليتوسع في ذلك، ويدخل ما جاء في السنة النبوية الصحيحة من أمور الأحكام ، وما ذكر في السيرة النبوية من تفاصيل الوقائع والأحداث ، لأن ما هو مقبل عليه هي معاني يحكيها للناس يجب أن يأخذوها كاملة غير مبتورة ولا منقوصة، والتقيد بالآيات وبيان معانيها حرفيا أو على الإقتصاد لا معنى له لمن أراد المعنى كاملا، لنأخذ مثلا قوله تعالى : ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، فالجزية هنا لا يمكن اختزال معناها في “مقدار من المال يعطيه أهل الذمة”، لأن هذا فيه تبسيط للمعنى، وقد يفهم منه أنه اعتداء وجور على مال الغير، والمعنى الكامل هو أنه مقدار من المال يُعطى لبيت مال الأمة في مقابل أن تحافظ الدولة المسلمة على مصالح أهل الذمة كلها ، بما فيها الدفاع عنهم إذا تعرضوا للإعتداء، وهو أمر مقرر حتى على المسلمين ، فالمسلم ملزم بدفع الزكاة والخراج والصدقة …، ولم يثبت قط أن أهل الذمة خرجوا مع الجيش الإسلامي فاتحين ومجاهدين وذابين على حوزة البلاد والدين، إنه مقدار من المال يعفيهم من كل التبعات، فإذا لم يعط أهل الذمة الجزية فكيف نفسر وجودهم داخل حوزة الدولة الإسلامية ؟.
المحدد الرابع : الترجمة اجتهاد في النص.
يجب التفريق بين القرآن وكلام الناس في القرآن، القرآن كلام الله جزما ، وكلام الناس في القرآن هو كلام بشري، كلام الله لا يدخله الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكلام البشر يعتريه الخطأ والباطل، الأول مطلق في الزمان، ونعني بالإطلاقية هنا أنه هوهو، أما كلام البشر في القرآن فهو نسبي والترجمة من هذا الكلام، ولا يتسلل إليها شيء من خواص كلام الله، فهي ضرب من الإجتهاد في فهم النص، وما يعم الإجتهاد في الدين يعم الترجمة أيضا، وقد وصفناها بذلك لكون القرآن يحتملها، فقد أمر الله عز وجل بالتفكر والتدبر في آياته وسوره سواء باللغة التي أنزل بها أو بلغة أخرى، فقد يقرأ القارئ بالعربية لكنه يفكر بغير العربية عند من تعود على ذلك، ثم إننا حين تكلمنا عن ضوابط الترجمة ضمن الدائرة العلمية إنما لتصويب الفهم وضمان سلامة الاستنباط ودرء التنازع والاختلاف وإلا فإن ترجمة معاني القرآن تبقى نسبية تختلف باختلاف الفهوم، وتتبدل بتبدل العصور والأحوال، فوضعيتها من هذا الوجه مثل وضعية تفاسير القرآن الكريم فهي تختلف باختلاف العصور والمناهج وطرق التفكير …ومما تجب الإشارة إليه فقدان استراتيجية واضحة عند أغلب من تصدى للقرآن بالترجمة، فقد عودتنا بعض التراجم الغربية على بيان هذه الإستراتيجية والكشف عنها، منهم من أقبل على ترجمته لدحضه، ومنهم من أقبل عليه بدافع الإطلاع الشخصي والرغبة الذاتية … هل للتراجم الإسلامية استراتيجية واضحة تجيب على سؤال : لماذا نقبل على الترجمة ؟ لأي هدف ولأية رغبة ؟ ماذا نريد أن نحقق بها ؟
كل ما تمت الإشارة إليه هنا هو عربون حي على عظمة هذا الكتاب العزيز، ودليل إضافي على معجزاته الخالدة التي جعلت من ألفاظه خزانا لمعان لا تنفذ مهما اختلفت العصور.
4-– حقيقة ترجمة معاني القرآن:
يجب التفريق بين أمور تتداخل في ذهن المقبل على القرآن بالترجمة،
الأمر الأول: ترجمة القرآن، والأمر الثاني: ترجمة معاني القرآن، والأمر الثالث: ترجمة تفسير القرآن.
الأمر الأول: يعني الإقبال على القرآن الكريم بالترجمة آية بعد آية، وسورة بعد أخرى، وهذا النوع يطلقون عليه الترجمة الحرفية أوالمساوية، وفيها خلاف بين من حكم باستحالة وجود هذا النوع ولا سيما عند أولئك الذين يطلقون على هذه العملية أنها قرآن ووحي، والأمر ليس كذلك، فالقرآن إذا خرج عن أصله العربي الذي أنزل به لم يعد قرآنا، وبين من حكم بتعذره وإن لم يذهب فيه مذهب المطابقة بين الترجمة والقرآن.
الأمـر الثاني: هو ترجمة معاني القرآن، ومضمون هذه العملية هو الإقبـا ل على ما استوحى العقـــل من معانيه بالترجـمة، وما انقدح في ذهن المترجم من معان من الآيــة أو السورة، فالمترجم في هذه الحالة يترجم المعنى ليس غير، وهي تختلف باختلاف اتساع دائرة الفهم والمعرفة والعلم بالقرآن، ولاخلاف في أن هذا النوع هو المرجح عند أهل العلم على شرط أن تكون الترجمة نزيهة وعلمية.
الأمر الثالث : وهو ترجمة تفسير القرآن، ونعني به ترك القرآن والإقبال على بعض تفاسيره بالترجمة، وهذا النوع من الترجمة فيه جهد مزدوج، الأول: تفسير القرآن بالعربية، والثاني ترجمة هذا التفسير إلى اللغات الحية، فكل جهد لا بد أن يكون مضبوطا بضوابط ومحررا بقواعد.
هذه ثلاثة حقائق للترجمة يجب التوقف عندها، وهي ما يطلقون عليها نعت الأنواع والأقسام، لا تهمنا في صيغتها التفصيلية بل تهمنا في صيغتها العامة، وصلة هذه الصيغة بالإنسان والحضارة.
إن الترجمة المشار إليها بالأمور الثلاثة السابقة أو بأي أمر آخر هي ظاهرة لم يحدثها الفكر الإسلامي القديم، بل استحدثها علماء اللاتين، ويجب التأكيد على أن الترجمة ليست حديثة ولاهي معاصرة بل هي مطلب قديم، ومطمح عريق حصل في العصور الوسطى للميلاد.
ويجب الإعتراف بأن ترجمة القرآن لم تظهر في البيئة الإسلامية بل ظهرت في البيئة الغربية، كما يجب أن نلحق بما مضى أنها لم تكن لأجل التعرف على الإسلام ولا تمت بفضول معرفي بل كانت لأجل محاربة الإسلام والقضاء عليه.
لقد أنشئت أول ترجمة للقرآن من قبل بطرس المبجل رئيس دير كولوني في (1092 – 1156) في الحدود الفرنسية مع الأندلس بين سنتي (1141م -1143م)، وقبل أن يقدم على الترجمة يبرر عمله هذا بمبررات عدوانية وغير علمية، إنها من ضرب من الحرب على الإسلام، وأن الحرب العسكرية يجب أن تنضاف إليها الحرب الفكرية والثقافية والمعرفية، والغرض هو تشويه صورة الإسلام، وطمس حقيقته، وتغطية إيجابياته ومزاياه، وهذا كله سيضمن إيقاف الزحف الإسلامي على أوربا وعلى المعمور، كيف وقد انتقل إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، واعتنقه الأوربيون حتى نبغ فيه منهم النوابغ، وفعلا ترجم القرآن، وتلاعبوا بألفاظه، وحرفوا كلامه، ولم يخفوا عداءهم له، بل بينوا ذلك في الصفحات الأولى من الترجمة.
كان صاحب فكرة (الحرب الثقافية) أو (المعرفية) على الإسلام هو الراهب المسيحي صاحب ديركلوني، وقد بدأت هذه الحرب بالترجمة، ثم توسعت الفكرة على يد نابليون بونبارت الذي أعاد الحرب بطريقة أخرى، مزج فيها بين الحرب الثقافية بزعامة المستشرقين، والحرب العسكرية بقيادة الضباط العسكريين، كان نابليون بونبارت على رأسهم.
بين صاحب ديركلوني ونابليون قرون من الزمان، تطورت فيها أشكال الحرب المعرفية، بحيث استحدثت فيها تراجم للقرآن على نفس الصورة ولنفس الغرض، واتخذت الحرب الصليبية على الإسلام أشكالا عسكرية متنوعة، حقق فيها الإسلام انتصارات متتالية، منها زحفه على شرق أوربا ، أما المترجمون للقرآن الكريم فقد أدركوا أن هذه الترجمات ساهمت في تعرف الأوربيين على الإسلام على الرغم من أساليب التشويه والتغطية، بل ساهمت ترجمة القرآن في قيام حركة الاصلاح الديني وغير الديني في أوربا، نعني بحركة الإصلاح الديني حركة مارثن لوثر والبروتسطانت، ونعني بالإصلاح غير الديني ظهور الحركة الإنسانية في أوربا التي اتخذت من ترجمة آيات من القرآن لا سيما التي تتحدث عن الإنسان وعن تكريمه واستخلافه والأمانة المنوطة به دليلا شرعيا على ظهورها وسلاحا قويا ضد الكنيسة.
تلك هي حقيقة ترجمة القرآن… حقيقة لها مرجع تاريخي يجب التوقف عنده.
5- القرآن والترجمة واللغة.
ثلاثة مصطلحات مركزية، القرآن أصل من الأصول المقطوع به، ومصدر من مصادر الإسلام، والترجمة كعملية ضرورية لنقل المعنى من لغة إلى أخرى، واللغة هي اللغة التي ينقل منها المعنى إلى لغة أخرى غير أن هذه المصطلحات الثلاث لا تبدو معزولة ولا هي موضوعة بصيغة التكافئ… فهي منسوجة بأسلوب محذوف تقديره: ما علاقة القرآن باللغة؟ وما صلته بالترجمة؟
اللغة المتحدث عنها هنا على نوعين: لغة القرآن الأصل، وتميز فيها الترجمة بين نوعين: النوع الأصل الذي يراد للمعنى أن يخرج منه إلى لغة أخرى، واللغة التي يخرج إليها المعنى قد تكون فرعية من الأولى أي من عربية القرآن إلى العربية العامة، أو من عربية القرآن إلى لغة لاتنية أو لغة شرقية أو أية لغة أخرى.
تقدم معنا في الفقرة الأولى أن القرآن كان هو المستهدف بعملية الترجمة ترجموه ليحاربوه، ولم تكن الترجمة التي استهدفت القرآن تعني غير التصرف في القرآن بلغة أخرى لاثينية، وقد اختيرت اللاتينية هنا ليفهمه جمهور أوربا وعلماء اللاتين، والأجيال التي تقرأ وتدرس بهذه اللغة.
ولما كانت لغة القرآن وهي العربية متطابقة مع القرآن أصبح المستهدف واحدا وهو القرآن واللغة العربية، غير أن هذا الاستهداف تنوع إلى نوعين: نوع استهدف القرآن واللغة العربية معا، ونوع استهدف اللغة العربية بمعزل عن القرآن، غير أن الاستهداف الثاني لم يكن يختلف عن الأول، فكلما استهدفت اللغة إلا واستهدف القرآن تبعا لذلك، لأن هذه اللغة هي لغته (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)[6]، إذ الغرض من إنزاله العربي هو لأجل فهمه وتدبره واستيعابه، وإذا ما ابتعد الإنسان عن اللغة العربية فإن عقاله للقرآن سينقطع، وفهمه سيجف، واستيعابه سينقرض، ومع ذلك ومع كل المضايقات التي تمت عبر اللسانيات الاستعمارية في مزاحمة اللغة العربية باللغة الفرنسية فقد زاد الإقبال على القرآن وعلى لغة القرآن.
وإذا كانت اللغة الفرنسية اليوم تعاني من مزاحمة اللغة الإنجليزية فإن هذا قلل من حضوضها أن ترتفع على أكتاف اللغة العربية، وبدأ نجمها يتوارى بفعل العولمة الحديثة التي تتخذ من اللغة الإنجليزية لغة لها..
هذا كله انعكس على القرآن وعلى اللغة العربية سلبا إذ أصبحت تعاني من ضغطين: ضغط فرنكوفوني وآخر أنكلوفوني.. واليوم أمام انقسام البشر إلى أنكلوفونيين وفرنكوفونيين فإن القرآن زحف على اللغتين، بل على اللغات كلها حيث ظهر جيل إسلامي جديد هو الجيل الفرنكوفوني الإسلامي والجيل الأنكلوفوني الإسلامي.. هؤلاء لا يتعاملون مع القرآن إلا عبر اللغتين، وهذا الجيل نشط في الترجمة بصفة عامة، وفي ترجمة القرآن والسنة النبوية بصفة خاصة، بل يمكن أن نتكلم اليوم عن تراث إسلامي ظهر للوجود منتشرا في العالم بأسره، كانت أوربا هي مدرسته الأولى، وبريطانيا وأمريكا مجاله الثاني، وقد نشطت الترجمة مع هؤلاء نشاطا كبيرا جدا، وهي اليوم تشق طريقها نحو الانتشار الواسع والعريض.
لامناص إذن من ركوب هذه الموجة الجديدة، ورب ضارة نافعة، لا مناص من الاهتمام بهذا التراث الإسلامي المترجم إلى اللغات الحية، الذي يجب أن يلقى من علماء الأمة تشجيعا واهتماما بالغين، وإننا لمطمئنين إلى أن الرجوع إلى اللغة العربية سيكون عبر هذه اللغات لا سيما وأن المسلمين الناطقين بغير العربية لا يقرأون القرآن إلا بلغته، ولا يصلون إلا به.
إن المرحلة التي نعيشها اليوم هي مرحلة طبيعية جدا، فهي جزء من المراحل السابقة، وزمنها يمتد فيما مضى من زمان، والفعل في هذا الزمان يشبه كثيرا الفعل في الزمان الذي كان، لقد ألف القرآن هذا، وألف التكيف معه، فالنعوت القدحية، والأوصاف المخزية والكليشهات الإعتباطية هي قديمة قدم وجهة هذا النص، وقد حكى القرآن في آيات كثيرة ما هو أشد في التشنيع وأبلغ في الإعارات، كما أن التضييق على القرآن وعلى حملته وحملة علومه هي طريقة قديمة جدا.
لقد عورض القرآن بمعارضات كثيرة، وأولوه تأويلات منحرفة عديدة، وظهر المتنبئون عبر التاريخ الذين ادعوا خرق ختم النبوة، ونسخ القرآن ونسخ الشريعة، وظهر المستشرقون الذين ترجموه وأساءوا إليه، وتسلط عليه الجهلة والمتفكرة من أصحاب المناهج الحديثة، وكثرت القراءات المتسلطة على النص، والفهوم المعوجة وتعدد الإسقاط… مع كل ذلك استطاع القرآن أن يتحدى، فهل ستؤثر فيه العراقيل الحديثة والمعاصرة؟ وهل ستنجح خطة وضع قرآن جديد للمسلمين كبديل عن القرآن الموروث؟ الجواب للتاريخ.
6- الترجمة والمقاصد:
كثيرا ما نتعامل مع ترجمة من التراجم أو نقبل على ترجمة القرآن إلى لغة من اللغات من دون تحديد المقصد من ذلك، ولولا تعليم القرآن للناس النظر إلى مقاصد الأعمال لما بادر علماء الإسلام إلى تأسيس علم أطلقوا عليه (علم المقاصد)، وللأسف لا يتم العمل بالمقاصد إلا حين تكون كلاما مجردا يخص علم المقاصد أو نظرية المقاصد، بل لا نقدم بين يدي الموضوع تساؤلات تنويرية من مثل: لماذا هذه الترجمة؟ وما المغزى منها؟ هل هي منجزة تحت الطلب؟ هل نسعى من خلالها إلى تقريب معاني القرآن إلى البشرية الجاهلة بالعربية؟هل نريد بها إصلاح مفاسد التراجم الموجودة؟ ثم لماذا هذا التكرار الموجود في ترجمة القرآن إلى لغة واحدة؟ لماذا بادر جاك بيرك إلى ترجمة القرآن إلى الفرنسية وهو يعلم أن في الفرنسية ترجمة أندريه دو رييروترجمة سفاري التي أنجزت على أصل عربي وترجمة كازيميرسكي و ريجيس بلاشير وغيرهم؟ وفي التراجم الإسلامية جهود طيبة مثل ترجمة أحمد توجاني وترجمة محمد حميد الله وترجمة السي حمزة بوبكر إضافة إلى التراجم الصادرة عن المجمعات العلمية والمعاهد المتخصصة مثل ترجمة مجمع الملك فهد وأخرى؟ …
إن تحديد المقصد من العمل من شأنه أن يحقق ما يلي:
– تقويم العمل بربطه بمقصده، هل حققت هذه الترجمة المقاصد والأهداف التي سعت إلى تحقيقها أم لا؟
– تلافي التكرار إذا حققت الترجمة السابقة هدفها وكانت اللاحقة ترمي إلى تحقيق نفس الهدف.
– نفي التلقائية في العمل فالترجمة لأجل الترجمة لا معنى لها في سياق تحديد المقاصد.
7-هل القرآن في ترجمة معانيه ؟
يحاول البعض أن يجعل من ترجمة معاني القرآن بديلا عن القرآن، يظهر ذلك حين تراه مثلا يطالع الترجمة أكثر من مطالعة القرآن، أو يبحث عن خصائص القرآن في الترجمة حتى إذا لم يجد أرجع العيب إلى القرآن أو ارتسم في ذهنه تصور مشين عن القرآن، وهذا من العيوب العلمية، فالنص يفقد خصائصه بمجرد ترجمته إلى لغة أخرى، بل يفقد خصوصيته في اللغة المحلية، فلا يمكن أن نظفر بتلك الحرارة البلاغية والاستعارية وقوة التعبير وسلامة اللغة الموجودة في القرآن في التراجم ، والذي يبحث عن هذه الخصائص في تراجم القرآن هو كمن ينقش على الماء.
ويتساءل الكثيرون عن عدم تأثير القرآن في أولئك الذين صاحبوه ردحا من الزمن، فقد خرجوا منه كما دخلوا مثل جاك بيرك وريجيس بلاشير وغيرهم ، والواقع أن عدم تأثرهم بالقرآن يرجع إلى عدة عوامل لا إلى عامل واحد :
الأول : أنهم تعاملوا مع القرآن كما تعاملوا مع سائر النصوص، فالقرآن – عندهم – نص من النصوص، مجرد من كل اعتبار وقدسية.
الثاني : أن عملية الترجمة هي وسيلة لهدف مسبق، ليس الغرض منها خدمة القرآن والإسلام.
الثالث : من معجزات القرآن أن الله صرفهم عن نيل الخير منه ، فإذا اكتفوا بالخير المادي فهذا من بركات القرآن حتى على غير المؤمنين به، أما الخير المعنوي المتمثل في الإيمان وكسب الأجر فهذا أمر قد صرف الله قلوبهم عنه كما صرف من أراد الإتيان بمثله، ولا خير فيمن لم يأخذ الخير من القرآن ، لذلك ما فتئنا نحذر من الإقبال على ترجمة معاني القرآن بمثل هذه المواصفات المذمومة.
وصلى الله على من أنزل عليه القرآن محمد صلى الله عليه وسلم.
– لسان العرب لابن منظور 5/162- مادة ( رجم).[1]
[5]– حديث صحيح ، أخرجه الإمام أحمد في المسند6/105 رقم الحديث 24592 ، والبيهقي في السنن الكبرى – باب قيام الليل- 2/ 499-500.
[6] – سورة يوسف الآية: 2.