نص المشاركة في ندوة أقيمت بمسجد الكرم ببلدية فوري FORET ببروكسيل في 8 رمضان لسنة 1433ه ، تنشر لأول مرة.
……………………………………………………………..
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد:
فمدار هذه المحاضرة على محورين تساؤليين :
أولا: لماذا نقول الإسلام دين الرحمة والسلام؟
نقول بذلك لأجل العمل به ، فأقوالنا شيء وأعمالنا مباينة لما نقول ، وهي آفة غير محمودة أصيب بها المسلمون في هذا العصر ، نحن أحوج ما نكون اليوم إلى العمل بتعاليم الإسلام الربانية ، لو نزل أحد من كوكب آخر ورآى حال المسلمين وما هم عليه من الفتنة والاقتتال لقال إن دينهم هو الذي يوجههم لذلك ، ولو ذهب إلى المحاكم الشرعية ودور القضاء والسجون ورأى انعدام المحبة والرحمة والسلام بين الإخوة والأشقاء وذوي الأسرة الواحدة لقال إن دينهم هو الذي يوجههم لذلك ، حري بالملاحظ أن يلحظ ذلك لأن الحالة العامة تدل على ذلك ، فهم يصلون وهم على هذا الحال ، ويصومون وهم على نفس الحال ، ويحجون ويزكون ويقرؤون القرآن وهم على نفس المنوال ، بل منهم من يجاهر بالقتل والقسوة والظلم باسم الدين ، فما هو المغزى الحقيقي للسلم والسلام في الإسلام ؟ ذلك ما سنجيب عليه في النقطة الموالية.
ثانيا: ما المغزى الحقيقي للسلام في الإسلام.
يبدأ السلام من خالق الكون وهو الله عز وجل ، ف” السلام ” مرتبط باسم الجلالة ” الله ” ، فهو اسم من أسمائه الحسنى ، وأسماء الله الحسنى هي مفاتيح مغاليق هذا الكون الرهيب (السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) ، والرحمة صفة لازمة لاسم الجلالة الله ، وهي اسم من أسمائه الحسنى أيضا ، ففي الصلاة نفتتح السورة بالبسملة فنقول ( باسم الله الرحمن الرحيم) ، بل باسم الله على كل شيء في هذه الحياة ، وكل ما لم يبدأ ببسم الله فهو ناقص ، ثم إننا نختم الصلاة بالسلام ، فنقول ” السلام عليكم ” ، والسلام فريضة من فرائض الصلاة .
الله السلام ، أنزل هذا الدين الذي هو “الإسلام” ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، والإسلام مشتق من السلام ، لأنه هدى وبينات نزلت من السماء (فإما ياتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، فالهدى والبينات هي “الإسلام” الذي ارتضاه الله لنا دينا ، والإسلام قديم ، وهو دين كل الأنبياء والرسل عليهم السلام ، وآخرهم هو محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام .
إن اشتقاق ” الإسلام ” من السلام له دلالته هنا ، فالله السلام أنزل دين السلام على نبي عُرف بأنه نبي الرحمة والسلام ، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، ووصف بها نفسه فقال ( إنما أنا الرحمة المهداة) ، فسيرته وسنته ، وما أنزل الله عليه من وحي تؤكد جميعها أنه نبي السلم والسلام والرحمة والمحبة ، وكان صلى الله عليه وسلم مهيأ لذلك بأخلاقه العالية التي بسببها اصطفاه الله تعالى للمهمة فقال له في جانب المومنين ( فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ، وقال له في جانب المخالفين (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، وتوكل على الله ) ، وقال له في وصفه لنفسه ( وإنك لعلى خلق عظيم) ، وأما من أنزل الإسلام من رب السلام على نبي السلم فهو جبريل عليه السلام ، وهو ملك من الملائكة موكل بإنزال الوحي على الأنبياء والرسل جميعا ، والملائكة مخلوقات نورانية ، سلمية بطبيعتها ، لا تعصي الله فيما أمرها وتفعل ما تومر ، فهي خادمة العرش ، إيمانها ثابت على التوحيد والذكر والتسبيح ، لا يصدر عنها إلا الخير ، ومنهم جبريل رسول السلام (سلام هي حتى مطلع الفجر) .
كل هذا نزل إلى جماعة من الناس أُمروا بالتوحيد والعبادة سماهم ربهم باسم منسوب إلى دينهم وهم ” المسلمون” ، وكل مسلم ينسب إلى هذا الدين إنما يحمل في لقبه هذا المعنى الذي هو السلام ، فالمسلم كائن مسالم بطبعه ، محب للخير لغيره ، إذا أحب فلله ، وإذا عادى فلله ، وعنده حب الله في مقدمة كل حب ، ولا يؤمن بهذا الدين حتى يحب لغيره ما يحب لنفسه ، فعلاقاته وتصرفاته كلها تقوم على ” السلام” ، ولذلك أمر الشرع بإفشاء السلام فقال ” افشوا السلام بينكم” ، كما أمر برد السلام ، وتحية النبي والنفس وسائر العباد ” السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين” .
السلام هو تحية الإسلام ، جعلها الله تعالى واجبة في لقاء المسلم لأخيه المسلم ، يُثاب على فعلها ويلام على تركها ، كما جعلها سنة في زيارة مقابر المسلمين ، وهي التفاتة وجيهة لها دلالات عميقة جدا تبين أن الإسلام ذهب بتحية “السلام” إلى ما هو أبعد من كونها تخص الأحياء ، فهي في حقهم سنة على الندب لكنها في حق الأحياء واجبة بالإلقاء والرد ، ولا يرد السلام من الموتى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الأثر .
رد السلام واجب محتم وفرض أكيد لقوله تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) النساء 86. والبدأ به أفضل ، وهو يدل على صفاء النفس ، وطهارة القلب ، وإبداء المودة والمحبة للناس ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي الإسلام خير ؟ فقال : أن تطعم الطعام ، وتقرا السلام على من عرفت ومن لم تعرف ” متفق عليه.
التحية بالسلام حق من حقوق المؤمن على اخيه ، يقول نبي هذه الامة محمد صلى الله عليه وسلم : ” حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام ، وعيادة المريض، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس” متفق عليه.
ليس هذا فحسب ، فقد دخل نعت ” السلام ” في الأحوال الشخصية للناس فتسمى به عدد كبير من أمة محمد ، مثل : ” عبد السلام ” ، و” سالم” ، و” سلمان ” ، و” وسليم ” و” ومسلم” و”سلم” و”سلام” و”سلامة “و”مسلمة” … هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فلا يوجد غير السلام ، فقد أعد الله تعالى لعباده جنة اسمها ” دار السلام” جزاء لهم على صنيع عملهم في الدنيا ، وهي لمن اعتقد دين السلام وعمل به ، ونشر السلم والسلام بين العباد ، وعاش على ذلك حتى لقي الله تعالى ، ذلك أنهم سعوا إلى السلم والسلام فوجدوه في دار السلام ( لهم دار السلام عند ربهم ، هو وليهم بما كانوا يعملون) ، أما تحيتهم فلا تكون إلا به كما كانت في الدنيا ( تحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم إن الحمد لله رب العالمين) ، ثم إنهم ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تاثيما إلا قيلا سلاما سلاما) ، تماما كما كانوا في الدنيا ، حريصين على تحية السلام ، وإفشاء السلام ، ورد السلام ، والعمل بدين السلام ..
كل هذا يدل على أن المغزى الحقيقي للسلام هو غير موكول للقوانين وللسياسات وللقرارات بل للأديان السماوية التي نزلت به من السماء ، فأصل السلام هو الوحي ، والدافع إليه هو الإيمان بمجمل أركانه ، فالإيمان بالقضاء والقدر في ما يصيب الإنسان من شر وابتلاء هو في أصله خير له ، وسلم من الله ، ولا يجب أن يُعتقد فيه ضد ذلك ، وهذا الأمر أراده الله تعالى أن يكون بين العباد كلهم ، فلا إيمان من دون هذا الاعتقاد والعمل بتعاليم السلام ، فبالإسلام وما تضمنه من سلم وسلام ومحبة ووئام نعبد الله تعالى ، وبها تعمر مساجد الله ، وبالسلم والسلام يتآلف الناس ويتعايشون ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
نشر على الموقع بتاريخ : 29/3/2019