بسم الله الرحمن الرحيم ، وبعد:
فإن طرق تملك خطة البحث العلمي وكيفية إنجاز البحوث من الناحية المنهجية تستمد في الغالب من ثلاثة منابع :
أ- يمكن للطالب أن يقرأ كتابا أو مقالا ، وما أكثر الكتب والمقالات الموجودة في الموضوع ، بلغات مختلفة وفي فنون مختلفة ، كيف تتم القراءة ؟ الله أعلم ، فللقراءة شروطها وضوابطها .
ب- ومنهم من يحضر لدورة تكوينية ، وهذه الدورة قد تكون يوما أو نصف يوم أو يومين أو ثلاثة ، كيف تكون هذه الدورة وما هو برنامجها ؟ الله أعلم ، قد تكون خاصة بالتحقيق مثلا ، وقد تكون في مناهج العلوم وطرق البحث بصفة عامة ، وقد تكون تطبيقية كلها أو نظرية كلها أو تتخللها ورشات تطبيقية بعد المحاضرات التكوينية النظرية .
ج- ومنهم من يواظب على حضور مناقشة رسالة جامعية ، محصورة في الوقت ، وفي الموضوع ، وفي عدد المتدخلين الذين هم أعضاء لجنة المناقشة مع الأستاذ المشرف .
إذا اقتصر الطالب على المنبع الأول والثاني فبها ونعمت ، وإذا اعتمد على الثالثة كان خيرا له ، لأن حضوره للمناقشة يُغنيه ، ذلك أن المناقشة تُعطيه جرعات ناجعة ومركزة تختصر عليه الطرق فتجعله في سلامة علمية ومنهجية دائمة .
المقصودون بالموضوع عندنا على ثلاثة أصناف :
– صنف من المسجلين لأطروحاتهم في الدكتوراه والماستر والتي هي قيد البحث والإنجاز ، وصنف يطمح في المستقبل ليكون من الباحثين ويرغب في تسجيل رسالة جامعية ، وصنف ثالث هو “باحث” وليس كل باحث “طالبا باحثا” ، يرغب في الاستفادة العلمية وفي تنمية قدراته المعرفية، إلى هؤلاء أوجه هذا المقال الذي أرجو أن يجد لديهم آذانا صاغية ليواظبوا على حضور جلسات مناقشة الرسائل والأطروحات ، ويدخل في هؤلاء جميعا الذين نُشرف عليهم والذين لا نُشرف عليهم ، الذين هم في مراكش والذين هم من خارج مدينة مراكش ، ولم لا ، قد يكونون من خارج المغرب ، فالحكمة ضالة المؤمن ، وطلب العلم لا حدود له ولا قيود ، ولنا في اجتهاد من سلف قدوة وأسوة ، أولئك الذين سَنُّوا الرحلة في طلب العلم ، وكفى بالأمصار فخرا أن تشتهر بمن برز فيها لا بما ظهر فيها .
حين يُسجل الطالب الباحث رسالته فإنه يكون قد “وثق عقد” إنجاز رسالة علمية في موضوع محدد ، وفي وقت محدد ، وبإشراف محدد ، وكل ذلك وفق الشروط العلمية والمنهجية المنصوص عليها والمتعارف عليها عالميا ، لذلك لا مناص له من أن يُحسن من مردوديته العلمية في مجال اكتساب مهارات البحث العلمي ، ويرفع من طاقته الاستيعابية ، استيعاب المعارف والأفكار ، ويعمل على شحذ أدواته ليقوم بواجب الإنجاز ، ومن الأمور المنصوص عليها الحضور إلى دورات تكوينية في مجال البحث العلمي والتي قدرها القانون بساعات محددة .
بالإضافة إلى ما تقدم يتضمن هذا المقال إفادات في بيان المنافع والإيجابيات التي تُجنى من حضور مثل هذه المناقشات ، والدافع إلى هذا المقال سببان:
الأول : الغياب المتكرر لهذه الفئة التي تعنيها المناقشة ، وقد يكون الدافع العوامل الثلاثة الآتية : الأول أشغالهم وظروفهم التي لا تسمح لبعضهم بالحضور ، لكن هذه الظروف ليست دائمة ، ولا هي عامة على الجميع ، ثم إن الطلبة لا يضعون بدائل تمكنهم من الاستفادة ولو بفعل التسجيل عن بعد أو عن قرب ، ووسائل التواصل اليوم أصبحت متاحة وممكنة، فهم يتواصلون لكن ليس على هذا المستوى ،الثاني عدم إدراكهم للمنافع التي تُجنى من حضور المناقشات ، فصورة الإيجابيات غير معروفة عندهم ، الثالث استخفافهم بالمناقشة بسبب غرور بعضهم بالمعرفة وهي قضية سأرجع إليها في نقطة مستقلة.
الثاني: أن الملاحظات التي تُوجهها لجنة المناقشة لهذا الطالب هي نفسها التي توجهها للآخر ، فالأخطاء متماثلة بذاتها ، هي نفسها تتكرر في كل رسالة بل – وهذا أفظع- تجد في الثانية ما هو أشد من الأولى، وفي الثالثة ماهو أفضع من الثانية ، وفي الرابعة ما هو أقبح من الثالثة ، وهكذا ، فلا اجتهاد ولا ارتقاء ، مما يدل على أن كل الطلبة الذين نُناقشهم لا يستفيدون من أخطاء بعضهم .
من إيجابيات الحضور ما يلي:
1- تكسير المجهول وتبديد المخاوف: البحث بالنسبة للطالب عالم مخيف ، هذه المخاوف تتبدد كلما داوم على الحضور .
2- معرفة أعلام العلم ، ونعني بهم الأساتذة المتخصصون الذين حجوا إلى هذه المناقشة من جهات مختلفة ، إذا أراد الطالب الباحث أن يلتقي بكل واحد منهم فإن هذا سيكلفه بذل الجهد والوقت والمال ، إذن هي فرصة ساقها الله إليه عليه أن يغتنمها ، فإذا كان يعرفهم فهي فرصة تتيح له تجديد معرفته بهم، أما إذا كان لا يعرفهم فعليه أن يغتنم هذه المناسبة ، ولم لا ، فحضوره قد يكون دافعا نحو مساءلتهم وفتح الحوار معهم .
3- بعض الطلاب يغترون بالمعرفة ، وأعني ب “المعرفة” المكتسبات السابقة التي حصلوا عليها في بيوتهم أو مع بعض شيوخهم ، وهذه المعرفة وإن كانت ضرورية في بعض الحالات فإنها تشكل عائقا معرفيا عند البعض ، تمنعه من أخذ المعارف والعلوم الإسلامية الأخرى بطريقة “نظامية” ، فالدراسات الإسلامية هي علوم ومعارف وليست “علما واحدا” و”معرفة واحدة” ، وقد تحول تلك المعرفة المسبقة إلى عائق تحصيل المناهج وطرق البحث والقواعد والضوابط ، فالمعرفة وحدها لا تكفي، لا بد من المنهج ، لهذا السبب يزهد بعض الطلبة في حضور المناقشات استخفافا ، هؤلاء يصاحبهم العجز أينما حلوا وارتحلوا في إنجاز إنتاج علمي منهجي أكاديمي ، وإذا كتبوا وقعوا في أخطاء منهجية فضيعة.
4- بعض الطلاب لهم معارف مسبقة ، ولامسوا موضوع المنهج ، فقرأوا في كيفية إنتاج البحوث، وحضروا لبعض الدورات ، وتملكوا خطة الإنجاز لكن اللغة العلمية غير موجودة ، وتقنيات البحث والتحرير مفقودة فكان منهجهم في البحث عبارة عن هيكل عظمي لا لحم فيه.
5- الغرض من الطالب الباحث هو أن يجمع بين الحسنيين ، يجمع بين تملك المادة العلمية على مستوى المعرفة من مصادرها وبين تملك خطة إنتاج المادة العلمية ، فإذا كان بحث الإجازة هو أخذ فقط ، وبحث الماستر هو أخذ وعطاء فإن بحث الدكتوراه هو عطاء أو يغلب عليه العطاء ، كم من طالب قدم رسالته في الدكتوراه بمواصفات بحث الماستر ، وكم من آخر قدم بحث الماستر بمواصفات بحث الإجازة ، حين يواظب الطالب على حضور المناقشات تستبين له هذه الحدود وتظهر له الفوارق .
6- حضور المناقشات على أنواع :
الأول: حضور مجاملة للمشرف أو لأحد أعضاء اللجنة ، أو حضور شرفي كضيف من ضيوف الطالب صاحب الرسالة.
الثاني: حضور جزئي لا كلي ، يحضر الطالب بجسده لا بعقله ، تمر عليه الجلسة من دون الاستفادة منها .
الثالث: حضور كلي ، هنا يكون الطالب مركزا ، متابعا ومنتبها .
الرابع: حضور من أول الوقت أو في آخره ، الحضور في أول الوقت مؤشر دال على الحرص والجدية ، والحضور في آخر الوقت مؤشر دال على التهاون وعدم الحرص .
7- للحضور لوازمه التي تقتضيه وتدل عليه ، من هذه اللوازم إعداد العدة ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) ، من الطلاب من يحضر مستمعا ، مستلقيا على ظهره ويديه في جيبه ، كأنه في متابعة مسرحية أو مقابلة كرة قدم ، غافل ولاه ، لا يسجل شيئا مما يسمعه بأي نوع من أنواع التسجيل، ومن الطلاب من هم بخلاف بعضهم ، يعدون العدة ويحضرون اللوازم ، وفي الحديث : ( قيدوا العلم بالكتاب ) ، فليراجع طلبة العلم كتاب ” تقييد العلم ” للحافظ الخطيب البغدادي فإنه نافع في هذا الباب .
وفي الختام نقول : إن مناقشة الرسائل والأطروحات نعمة مغبون فيها كثير من الطلبة الباحثين ، كلما داوم الطالب على الحضور كلما قلت أخطاؤه ، وتقلصت هفواته ، وتضيقت مساحة الخلل المنهجي عنده ، وتهذبت حمولاته المعرفية ، والأهم من هذا هو زيادة العزيمة في النهوض ببحثه ، ووضعه على الطريق السوي ليشق طريقه نحو عالم البحث العلمي ، والله الموفق للصواب بمنه وكرمه .
حرر بالموقع الأكاديمي بتاريخ 8/1/2020
………………………………………………………………..
وكم ضيعنا من هذه الفرص، فنرجو ان نستذرك بعضا مما فاتنا …والفضل كله يرجع لحرصكم وتنبيهاتكم والا بقينا محرومين محجوبين غافليين …فحفظكم الله ورعاكم…
والله انا نحبك في الله شيخنا ومعلمنا الفاضل