بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد:
فهذا طرف من حديث صحيح ، أخرجه أبوداود[1] والترمذي[2] وابن ماجة [3] في سننهم ، وابن حبان في صحيحه [4]، يهمني أن أتوقف عنده لبيان أصناف العلماء في ضوء معنى الحديث ، فالذين يرثون ميراث النبوة هم “العلماء” ، والأنبياء كما جاء في هذا الحديث ” لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه قد أخذ بحظ وافر ” ، فاتضح أن الميراث الحقيقي هو ” العلم ” ، ولا يقع العلم في موقعه الصحيح إلا عند ” العلماء” ، لأنهم بالعلم علماء .
الكلام في الحديث ليس لمجرد الإخبار بل لمجرد الاتباع والاقتداء ، لا يكفي أن نعلم من الحديث معناه فقط بل لا بد من العمل بما فيه ، فالعلماء هم المقصودون بهذا الخطاب النبوي ، معناه : أن “علم العلماء” لا يجب أن يخرج عن “علم الأنبياء” ، فعلمهم من علمهم ، وعملهم يكون من علمهم ، فالعالم ملزم بأن يتبع سنن وسبل وطرق الأنبياء في تعليم الناس وهدايتهم ، ذلك هو المراد من الحديث ، يقول عبد الرؤوف المناوي معلقا : ( لأن الميراث ينتقل إلى الأقرب ، وأقرب الأمة في نسبة الدين العلماء الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة ، وكانوا للأمة بدلا من الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين : العلم والعمل ، وحازوا الفضيلتين : الكمال والتكميل)[5] ، لكن هل سلك العلماء هذا السبيل ؟
الجواب أن بعضهم اختار طرقا أخرى ، وسبلا متباينة مع قصد الحديث ، هؤلاء لم يأخذوا من سنن النبي صلى الله عليه وسلم سوى قولهم : ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ، أو أخرج البخاري ومسلم” ، إلى غير ذلك من صيغ التحديث المعروفة والتي يبدو البعض فيها بارعا ، وهؤلاء في الواقع على ثلاثة أصناف : عالم فتنة ، وعالم الذات ، وعالم العلم .
عالم الفتنة هو الذي يُسخر علم الأنبياء في إثارة النعرات ، وإذكاء الفتن ، وتوليد الاختلافات والتركيز على الطائفية والمذهبية ، وغالبا ما تجده يسخر حديث النبي صلى الله عليه وسلم لخدمة مذهبه وطائفته وحزبه ونحلته ، يتقوقع فيها ويرفع شوكته ، يرد من السنة ما لا يخدم أغراضه ، ويبحث فيها على ما يدعم هواه ، وهو دائما يتصيد المعارك الفكرية إن لم يُساهم في توليدها ، جاهز للعطب في أية لحظة ، نسأل الله السلامة.
عالم الذات هو عالم المصلحة الشخصية ، يُسخر العلم للمصلحة الخاصة ، كل ما يدور حوله مما يُمكن أن يتصرف فيه بالقول والعمل هو وسائل موصلة إلى المقصود الشخصي ، ويدخل في عالم الذات المتمحور حول ذاته ، يبحث عن ذاته ، ويروج لنفسه ، لا يبحث سوى عن أساليب الإثارة ولغة الإغراء ، إذا اعتصرت مُجمل ما قال وكتب تجد خلفه الذاتية المفرطة ، فهو يحب أن يُمدح بلا حق ، وأن يُرفع به من دون سبب موجب لذلك ، لا نقول إن ذلك لا يُفعل لأن “من رق وجهه رق علمه ” ولكن نقول ” إن الشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده ” ، وأخشى أن يدخل هؤلاء في قوله تعالى : ( لا تحسبَن الذين يفرحون بما أتوا ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب)[6] ، هذا النوع من العلماء يُنفر ولا يُقرب ، كلما زاد علما نقص ورعا .
وممن يدخل في هذا الصنف “المتشيخون” على الناس ، أولئك الذين يربطون طلاب العلم بهم لا بالعلم ، و”سراق العلم” الذين لا تهمهم سوى الترقيات ، يضحون بالعلم في سبيل الذات ، و”مرضى النفوس” وما أكثرهم ، و ” الجهال المتطفلون ” ، الراغبون في الشهرة والصيت ، وقد كثر عددهم للأسف ، هؤلاء الذين يخطفون الأضواء ، نعوذ بالله من الطيش والغرور.
وعالم العلم ، وهو الذي لا هم له سوى العلم ، يخدم العلم من داخله ، ويسعى إلى خدمته وتطويره ، وإلى نشره وتدويله ، فإذا نصح فبالقواعد ، وإذا علم فبالضوابط ، وإذا فقه فبمصطلحات العلم وفنونه ، يتحلى بالآداب والأخلاق ، كلما زاد علما زاد ورعا ، فهو عالم للجميع لا لفئة بعينها ، إذا أقبل فعلى الكل ، إذا تكلم غيب ذاته ، وتواضع بتواضع النبوة ، يظهر عليه سمت العلماء ، من دون تصنع ولا تكلف ، فهذا هو الذي يدخل في معنى حديث الباب.
أين هي النصيحة إذن؟
تدرك الفرق بينهم من منطلق النصيحة ، إذا نصحتَ الأول عطبك ونال منك ، وإذا نصحتَ الثاني عاداك وأدار وجهه عنك ، أما الثالث فيقبلها منك بصدر رحب ، ويدعو لك زيادة ، لأنه يُدرك مغزى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم : ” الدين النصيحة “، لذلك فالأول نتعامل معه ب” ذكاء” ، والثاني ب ” دهاء” ، والثالث ب ” صفاء“.
أولئك هم أصناف العلماء في ضوء حديث ” العلماء ورثة الأنبياء”.
…………………………………………..
-[1] أخرجه ابو داود في السنن ، كتاب العلم ، باب الحث على طلب العلم ، 3/317 رقم الحديث 3641، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، طبعة المكتبة العصرية ، بيروت .
[2]– أخرجه الترمذي في جامعه ، وهو السنن ، أبواب العلم ، باب ماجاء في فضل الفقه على العبادة ، 4/414 رقم الحديث 2682، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف ، طبعة دار الغرب الإسلامي ، الاولى 1996م.
[3]– أخرجه ابن ماجة في السنن ،1/213 رقم الحديث 223 ، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف ، طبعة دار الجيل ، بيروت ، الاولى 1998م.
[4]– أخرجه ابن حبان في صحيحه ،كتاب العلم ، باب ذكر وصف العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا قبل ، أنظر صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ، 1/289-290 رقم الحديث 88 ن تحقيق شعيب الأرناؤوط ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الثالثة 1993م.
[5]– أنظر فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي 4/374 ، طبعة المكتبة التجارية الكبرى .
[6]– سورة آل عمران الآية 188.
Scroll To Top
بارك الله فيكم أستاذنا الفاضل ونفع بكم.